في 4 أغسطس 2025، وخلال افتتاح أحد المشاريع القومية في منطقة النوبارية بالبحيرة، عاد عبد الفتاح السيسي، قائد الانقلاب العسكري والرئيس الحالي لمصر، إلى ترديد خطاب مكرر يحمل في طياته محاولة لتبرئة الذات من اتهامات تتعلق بالدم، والمال، والتآمر، قائلاً: "إيدينا مش ملطخة بدماء أحد، ولا أموال أحد، ولا بالتآمر على أحد.. وبالله مبنخافش.. مبنخافش غير من ربنا وبنعمله حساب كبير قوي".

تصريحات كهذه لم تأتِ من فراغ. فعلى مدار سنوات حكمه، اعتاد السيسي أن يُضمن خطاباته رسائل دفاعية، وكأنما يحاكم نفسه على المنصة، لكن السؤال الملّح: لماذا يعود السيسي دوماً لهذا الخطاب؟ وممَّ يخشى؟

 

دماء لا تُنسى.. من رابعة حتى بدر

منذ الانقلاب العسكري في يوليو 2013، ارتكبت قوات الأمن المصرية مجازر وصفتها منظمات حقوقية دولية بأنها "جرائم ضد الإنسانية"، أبرزها كانت مجزرة رابعة العدوية يوم 14 أغسطس 2013، والتي راح ضحيتها أكثر من 1000  قتيل في ساعات، بحسب تقارير هيومن رايتس ووتش.

وفي تقرير لها عام 2021، أكدت منظمة العفو الدولية أن "النظام المصري يتعامل مع أرواح معارضيه بلا اعتبار، مستخدماً القتل خارج إطار القانون والتعذيب والإخفاء القسري كسلاح سياسي".

فإذا لم تكن "الأيدي ملطخة بالدماء"، فلمن إذًا يُنسب كل هذا السجل القاتم؟ التكرار الدفاعي لعبارة "مبنخافش" يبدو محاولة للهرب من ذاكرة جماعية لا تنسى.

 

الاعتراف الضمني بالخوف..

في علم الخطاب السياسي، يُفسّر التكرار الدفاعي للبراءة كمؤشر على قلق داخلي أو شعور بالذنب، المفكر الأميركي جورج لايكوف يقول: "عندما يصرّ السياسي على نفي شيء دون أن يُسأل عنه، فإنه يلفت الانتباه إلى التهمة أكثر من نفيها."

تكرار السيسي لعبارة "مبنخافش غير من ربنا" يعيد للأذهان تصريحات مشابهة في فبراير 2016، حين قال: "أنا مش خايف من حاجة، واللي خايف ما يركبش البحر".

ثم في مارس 2019، قال: "أنا مش هخاف.. اللي بيخاف مابيحكمش".

فإذا كان لا يخاف، فلمَ الحاجة المتكررة لتوكيد ذلك؟ ولمَ التركيز على "البراءة من الدماء"؟

التحليل السياسي يشير إلى أن هذا النوع من التكرار ينبع من إدراك داخلي بخطورة الملفات التي يحملها الرجل، لا سيما ملف حقوق الإنسان والجرائم السياسية، سواء محليًا أو دوليًا.

 

المال العام والفساد.. الدفاع عن النفس قبل الاتهام

في ذات التصريح بالنوبارية، قال السيسي: "إيدينا مش ملطخة بأموال أحد"، لكن الواقع يكذب هذا الزعم.

وفق تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات في 2015، الذي تم التعتيم عليه لاحقًا، فإن الفساد في مؤسسات الدولة بلغ 600 مليار جنيه مصري في أقل من أربع سنوات.

ولم يكن غريبًا أن يُقال المستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز، من منصبه ويُحاكم بعد تصريحاته، في مؤشر واضح على أن النظام يخشى فتح ملف الفساد.

ومع توسّع نفوذ الجيش في الاقتصاد، حتى سيطرته على ما يُقدر بـ 60 % من مفاصل الاقتصاد المصري، بحسب تصريح وزير الصناعة الأسبق منير فخري عبد النور، تتزايد الشكوك حول الشفافية والنزاهة.

فهل يقصد السيسي الدفاع عن نفسه شخصيًا، أم عن المؤسسة العسكرية التي باتت متهمة بالتربح من المال العام؟

 

التآمر.. لمن تُوجه الرسالة؟

في أكثر من مناسبة، نفى السيسي التآمر على أحد، لكن هذا النفي يبدو موجهاً بالأساس للمعارضة، سواء في الداخل أو الخارج، منذ الانقلاب على أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، الرئيس محمد مرسي، استخدم النظام خطاب "المؤامرة الخارجية" لتبرير القمع الداخلي.

وفي أكتوبر 2022، قال السيسي: "مفيش مؤامرات في مصر.. مفيش ناس بتتآمر على الدولة".

بينما تقبع البلاد تحت حكم الطوارئ غير المعلن، وتُدار عبر أجهزة أمنية واستخباراتية، ويُعتقل كل من يتجرأ على انتقاد قائد الانقلاب.

الحديث المتكرر عن "عدم التآمر" يبدو محاولة لتجميل صورة شديدة السواد، خاصة في ظل اتساع رقعة المنفيين السياسيين، والاعتقالات التي طالت حتى مؤثري "التيك توك".

 

هل يخشى الحساب؟

استخدام السيسي لعبارة "اللي بيعمل حاجة غلط بيخاف لأنه بيبقى جواه حاجة تقوله ممكن تتحاسب على ده في الدنيا والآخرة"، يثير تساؤلاً عميقًا: هل يخشى الرجل المحاسبة؟

محليًا، لا يبدو أن هناك مساءلة حقيقية؛ البرلمان يدين له بالولاء، والقضاء تم تطويعه، والصحافة خُنقت.

لكن دوليًا، تتراكم التقارير الحقوقية، والملفات، والنداءات لمحاكمات مستقبلية، وقد صرح روبرت فيسك قبل وفاته في "الإندبندنت" عام 2019: "إذا فلت السيسي من الحساب اليوم، فلن يفلت غدًا."

 

"من يُبرئ نفسه كثيرًا... يُقلق أكثر"

الخطابات السياسية لا تُفهم دائمًا بما يُقال، بل بما يُكرَّر، تكرار السيسي لعبارات البراءة من الدماء والمال والتآمر، دون أن يطالبه أحد بذلك في كل مرة، يكشف عن قلق داخلي مستمر، وربما شعور غير مُعلن بالذنب أو الخوف من لحظة الحساب.

وإذا كانت السلطة الحقيقية لا تحتاج لتبرير دائم، فإن تبريرات السيسي المستمرة، هي في حد ذاتها، أقوى إدانة.

تصريحات عبد الفتاح السيسي المتكررة في نفي تورطه في أي ممارسات غير قانونية أو أخلاقية، تؤكد على أن هناك أزمة ثقة عميقة بينه وبين شعبه أو حتى جزء كبير منه، فالأرقام والإحصائيات، إضافة إلى تقارير حقوق الإنسان وتصريحات معارضين بارزين، تدعم هذا التقييم وتوضح أن الحكم تحت قيادته يعاني من تحديات كبيرة على مستوى الشرعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لذلك، يتضح أن تكرار هذه التصريحات هو جزء من محاولة مستمرة للحفاظ على موقعه في ظل ضغوط داخلية وخارجية متزايدة، حيث الخوف الحقيقي قد لا يكون ظاهراً لكنه موجود في العمق.