د. محمد الصغير

رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ ، وعضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

ظهر أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام في خطابه الأخير في صورة النذير العريان، وهو وصف يُطلق على من أراد أن يحذر قومه من خطر داهم، مستعملا في ذلك حاله ولسانه، وقد ورد ذلك على لسان رسول الله ﷺ فيما أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ ما بَعَثَنِيَ اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أتَى قَوْمَهُ، فقالَ: يا قَوْمِ إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بعَيْنَيَّ، وإنِّي أنا النَّذِيرُ العُرْيانُ، فالنَّجاءَ، فأطاعَهُ طائِفَةٌ مِن قَوْمِهِ، فأدْلَجُوا فانْطَلَقُوا علَى مُهْلَتِهِمْ، وكَذَّبَتْ طائِفَةٌ منهمْ فأصْبَحُوا مَكانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ فأهْلَكَهُمْ واجْتاحَهُمْ، فَذلكَ مَثَلُ مَن أطاعَنِي واتَّبَعَ ما جِئْتُ به، ومَثَلُ مَن عَصانِي وكَذَّبَ ما جِئْتُ به مِنَ الحَقِّ”.

واكبت نداءات أبي عبيدة انطلاق طوفان الأقصى، وأصبح الشخصية الأكثر متابعة لكل مهتم بهذا الحدث الجلل وتداعياته الكبيرة، وتعددت مناشداته لكل أبناء الأمة الإسلامية والإنسانية معا، وكان يحرص على تغليف مرارة كلامه بغلالة من الود والمجاملة، وبعد مرور واحد وعشرين شهرا على حرب الإبادة بكل الأسلحة الفتاكة، لجأ الاحتلال إلى إحكام الحصار بالحديد والنار، وانتهج سياسة التركيع بالتجويع، ليصبح قطاع غزة أول بقعة يفرض عليها الجوع بقوة السلاح، وبدأت تظهر حالات موت الأطفال والكبار نتيجة الجوع ونقص الغذاء، والعالم كله يشهد أن أبطال غزة لا يفت فيهم استشهاد أولادهم، ولكن عزة الأحرار تأبى عليهم أن يروا أولادهم يموتون من شدة الجوع، وسط أمة متخمة من كثرة الشبع!

 

وجاء الفرج

ومن هنا جاء نداءأبي عبيدة الأخير كزخات الرصاص، ودانات المدافع التي تقع على رؤوس أطفال غزة،  ونزع ورقة التوت التي تغطي سوءات الجميع، وترك خطاب المجاملة إلى إعلان المخاصمة. ومع أنه توجه بخطابه إلى القادة والعلماء والنخب، فإن عامة الناس توجهوا به إلى العلماء دون غيرهم، لأنهم ملاذ الأمة في كربتها وحملة رايتها، والوصول إليهم أيسر، والاستجابة منهم أسرع، وإن كانت المسؤولية على العاِلم كبيرة، فهي على الكيانات العلمائية أكبر، وفضيلةشيخ الأزهر لقبه الإمام الأكبر، لذا كانت المسؤولية عليه أعظم، وحق الجوار يجعل الواجب في حقه ألزم، فتوجه إليه العلماء من كل مكان عسى أن يأتي الفرج من قبله، ويتم الفتح على يديه.

ومما جاء في بيان هيئة أنصار النبي ﷺ في هذا الموضوع: إن التاريخ قد أعاد فتح ناصع صفحاته، لمن أراد أن يسجل اسمه فيها، وتمنوا لفضيلة شيخ الأزهر هذه المكانة، وكذلك فعل علماء العراق، وبيانات اتحاد علماء المسلمين المتعاقبة، وبالفعل أطلق الأزهر الشريف نداء عالميا استصرخ فيه أصحاب الضمائر الحية وطالبهم بتحرك فوري لإنقاذ أهل غزة من المجاعة القاتلة، وناشد أصحاب الضمائر الحية من أحرار العالم وعقلائه وحكمائه وشرفائه ممَّن لا يزالون يتألمون من وخز الضمير، ويؤمنون بحرمة المسؤولية الإنسانية، من أجل تحرك عاجل وفوري لإنقاذ أهل غزة من مجاعة قاتلة، يفرضها الاحتلال في قُوَّةٍ ووحشية ولا مبالاة لم يعرف التاريخ لها مثيلاً من قبل، ونظنه لن يعرف لها شبيها في مستقبل الأيام.

وأكد البيان على أن الضمير الإنساني اليوم يقف على المحك وهو يرى آلاف الأطفال والأبرياء يقتلون بدم بارد، وأن من ينجو منهم من القتل يلقى حتفه بسبب الجوع والعطش والجفاف، ونفاد الدواء، وتوقف المراكز الطبية عن إنقاذهم من موت محقق.

 

إبادة جماعية مكتملة الاركان

وشدد بيان الأزهر على أن ما يُمارسه هذا الاحتلال البغيض من تجويع قاتل ومتعمَّد لأهل غزة المسالمين، وهم يبحثون عن كسرة خبز أو شربة ماء، ويستهدفهم بالرصاص الحي في مواقع الإيواء، ومراكز توزيع المساعدات الإنسانية والإغاثية لهو جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان، وأن من يمد هذا الكيان بالسلاح، أو يُشجعه بالقرارات أو الكلمات المنافقة، فهو شريك له في هذه الإبادة، وسوف يحاسبهم الحكم العدل، والمنتقم الجبار، يوم لا ينفع مال ولا بنون، وعلى هؤلاء الذين يساندونهم أن يتذكروا جيدا الحكمة الخالدة التي تقول: “أكلنا يوم أكل الثور الأبيض”.

وخاطب البيان القوى الفاعلة والمؤثرة أن تبذل أقصى ما تستطيع لصد هذا الكيان الوحشي، وإرغامه على وقف عمليات القتل الممنهجة، وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية بشكل فوري، وفتح كل الطرق لعلاج المرضى والمصابين الذين تفاقمت حالتهم الصحية نتيجة استهداف الاحتلال للمستشفيات والمرافق الطبية، في انتهاك صارخ لكل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية.

وفي الختام أعلن الأزهر الشريف براءته أمام الله من هذا الصمت العالمي المريب، ومن تقاعس دولي مخز لنصرة هذا الشعب الأعزل، ومن أي دعوة لتهجير أهل غزة من أرضهم، ومن كل من يقبل بهذه الدعوات أو يتجاوب معها، ويحمل كل داعم لهذا العدوان مسؤولية الدماء التي تسفك، والأرواح التي تزهق، والبطون التي تتضور جوعا في غزة الجريحة، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ).

 

بردا وسلاما

نزلت كلمات بيان الأزهر بردا وسلاما على نفوس من يأملون الخير في الأزهر الشريف، واعتبروه تتمة لمواقف فضيلة الدكتور أحمد الطيب السابقة، وكدت أكسب جولة مهمة مع من ينكرون عليّ الإشادة بمواقف شيخ الأزهر في نصرة الحق، وردي للشبه التي تثار حول وقوفه إلى الجانب الآخر، ومرد ذلك إلى نظرتهم العجلى، والوقوف عند ظواهر الأمور، حتى كدت أفقد نصف أترابي ورفقاء دربي بسبب هذه المواقف، وإذا بهؤلاء جميعا يراسلونني في وقت واحد، عن حذف الأزهر لبيانه حول المجاعة القاتلة في غزة، الذي حمل في سطوره كلمة الحق، وبيّن واجب الوقت وأدى بعض الفرض، فهل يمكن أن يكون سبب هذا الحذف والحجب، الخشية من ترجمة البيان لخطوات عملية تسعى إلى تخفيف الحصار، وإنقاذ النساء والأطفال من الهلاك جوعا؟

هل بلغ بأمتنا العجز إلى درجة عدم القدرة على إغاثة شعب غزة وإمداده بأهم ضرورات الحياة، في الوقت الذي نرى فيه دولا كبرى تدعم جيش الاحتلال بكل وسائل الدعم، وتفتح خزائنها لإبادة شعب أعزل؟!

ومع كل ما سبق فإني مازلت متشبثا بالأمل، لأن النية الصادقة وراء بيان الأزهر الشريف، كانت سببا في ذيوعه وانتشاره بعد الحذف، أضعاف ما لو بقي على مواقع المشيخة، لأن طبيعة الناس البحث عن المحذوف والممنوع، كما أن صلابة فضيلة الشيخ أحمد الطيب في مواقف سابقة – كالطلاق الشفهي- توحي بأنه لا يقبل التراجع، وإن كان موقعه في المشيخة قد يفرض عليه شيئا، فإن مكانته المتأصلة من ساحة “القرنة” وفي قلوب أبناء الأمة تفرض عليه أشياء، وأسأل الله أن يأخذ بناصيته إلى السداد والرشاد، وأن يجعل لأهل غزة من لدنه فرجا ومخرجا.