بقلم أشرف الشربيني

 

   في أنظمة الحكم الإستبدادية، تكتسب الشعوب الوعى من جهاد أهل الفكر والرأى، أو من هزات عنيفة لا يستطيع النظام أن يتحملها أو يبررها. وهذا ما حدث للشعب المصري عقب هزيمة 1967.

ففي مثل هذه الأيام، كان زحفٌ جماهيريٌ حاشد يومي التاسع والعاشر من يونيو 1967، يطالب القائد المهزوم بألا يتنحى! بعدما أعلن عبد الناصر تنحيه عن الحكم بخطاب عاطفي كتبه له هيكل عقب الهزيمة، لكن الحقيقة التي لم تُروى، أن المصريين خرجوا بمظاهرات أدانوا فيها عبد الناصر، بعد أقل من عام من مظاهرات عدم التنحي، والتي مثلت نقطة إنكسار للمشروع الناصري في مصر والعالم العربي.

ففي مظاهرات عدم التنحي 1967، كانت العاطفة هى من حركت الجماهير، سواء عاطفة التعلق بالزعيم المخلِّص، أو عاطفة الخوف من مستقبل ليس فيه زعيم! وربما حركتها روح القطيع، بفعل المنظمات الشعبية التعبوية التي أنشأها عبد الناصر على عينه.

بينما مظاهرات إدانة النظام 1968، كانت لجماهير تشكَّل وعيُها على وقع هزيمة 67، التي كانت بمثابة زلزال مدمِّر لنظام عبد الناصر.

ففي فبراير 1968، إندلعت مظاهرات واسعة ضد أحكام صدرت بحق قادة الطيران، الذين قيل أنهم المسئولون عن الهزيمة، بدأها عمال القاطرات بمصانع حلوان، عندما خرجوا إلى الشوارع يهتفون ضد عبد الناصر لأول مرة: (لا صدقى ولا الغول عبد الناصر هو المسئول)، وقد حاول عناصر منظمة الشباب والتنظيم الطليعى حرْف المظاهرات عن هدفها، لتصبح في النهاية مجرد مؤتمر للتنفيس عن الغضب، وبالفعل تم عقد المؤتمر فى مصنع الحديد والصلب، ثم ساروا في مسيرة سلمية تنتهى أمام مقر الاتحاد الاشتراكى بحلوان بالقرب من قسم شرطة حلوان، لكن قوات الشرطة بإطلاق النار! فقُتل اثنان من العمال وأُصيب سبعة وسبعون آخروون، وكان إطلاق النار مجرد رسالة من النظام أن الخروج إلى الشارع عاقبته الموت!

وعندما علم العمال فى المصانع الأخرى بما حدث لزملائهم، خرجوا بمظاهرات فى كل مصانع حلوان.

وفى اليوم التالى اشتعلت المظاهرات فى جامعات القاهرة وعين شمس والإسكندرية، وذهب المتظاهرون إلى مبنى جريدة الأهرام وقذفوه بالحجارة، وهتفوا ضد هيكل الذى أطلقوا عليه لقب «كاهن المعبد»: (يا هيكل يا جبان فين بصراحة عن حلوان).

وكانت الشعارات سواء على اسوار كلية الهندسة جامعة القاهرة او على اسوار جامعة الإسكندرية (تسقط دولة المباحث – تسقط دولة العسكريين – هيكل هيكل يا كدَّاب.. بطَّل كدب يا نصَّاب – يا جمال للصبر حدود - عشرة يونيو مش هتعود).. كانت كلها موجهة للنظام

وفي 28/2/1968 تمت تسوية بين الطلاب المعتصمين وبين عبد الناصر، باجتماع في مجلس الامة، وفي هذا الإجتماع وجه الطلاب إتهامات مباشرة للوزراء لأول مرة..

تجددت المظاهرات في نوفمبر من نفس العام (1968)، لكن هذه المرة من مدينة المنصورة، بسبب قرارات لتنظيم العملية التعليمية! بدأت المظاهرات من ثانويات المنصورة، ثم انضم إليها طلاب المعاهد الأزهرية، ومنها انتقلت إلى جامعة الإسكندرية، وتحديداً كلية الهندسة، التي اعتصم الطلاب بداخلها، وشهدت المدينة مظاهرات ضخمة، إنتهت بصدامات دامية مع الشرطة..

فتراجع النظام لأول مرة بعدما سقطت هيبته وانكشف زيفه، فقام عبد الناصر بتشكيل وزارة كان أغلبها من المدنيين لأول مرة فى عهده، ووعد بتنفيذ إجرءات تصحيحية فيما عُرف ببرنامج  30 مارس.

وفي لحظة سقوط هيبة النظام، تشكلت بيئة خارج سيطرة عبد الناصر، وكانت هى الحاضنة لجماعة الإخوان المسلمين، العائدة بعد غياب عشرين عاماً داخل سجون عبد الناصر..

فالشعب المصري لم يستسلم لعبد الناصر بعد هزيمة 67، والتي كانت بمثابة لحظة ميلاد لتيار شكلته مشاعر الغضب، كان هو مادة التغيير بعد موت عبد الناصر ومجئ السادات.