عادت ظاهرة الاعتداء على الطواقم الطبية والمنشآت الصحية لتتصدر المشهد بعد فترة من التراجع النسبي، ورغم إقرار قانون المسؤولية الطبية في مارس الماضي، الذي كان يُعوّل عليه كثيرون كأداة ردع حاسمة لحماية الأطباء وتنظيم العلاقة بينهم وبين المرضى.
لكن الأحداث الأخيرة، خصوصًا الاعتداء على طبيب في محافظة قنا، أعادت إلى الواجهة مخاوف الأطباء من غياب الحماية، وطرحت تساؤلات واسعة حول فاعلية القوانين ما لم تُطبق بحزم، في ظل تدهور بيئة العمل داخل القطاع الصحي.
 

حادثة قنا: الطبيب يلتزم بالمعايير.. ويتعرض للاعتداء
   أثار اعتداء جسدي على طبيب في عيادته الخاصة بقنا موجة استياء واسعة في الأوساط الطبية، حيث تعرّض الطبيب للضرب من أحد ذوي المرضى بعد رفضه استقبال حالة طارئة تعاني من التهاب حاد في المرارة، مبررًا ذلك بأن الحالة تستلزم معدات وتجهيزات متوفرة فقط في المستشفيات.

ورغم أن تصرّف الطبيب جاء وفقًا لما تقتضيه المعايير الطبية، التي تحظر إجراء تدخلات طارئة في العيادات الخاصة غير المجهزة، إلا أن الحادثة كشفت عن هشاشة الحماية القانونية الممنوحة للعاملين في القطاع الصحي، وأعادت إلى الأذهان مشاهد مألوفة من سنوات سابقة كانت فيها أقسام الطوارئ مسرحًا متكرراً لحوادث العنف.
 

موقف نقابة الأطباء: تطبيق القواعد لا يُعاقب عليه
   في بيان رسمي، أعربت النقابة العامة للأطباء عن تضامنها الكامل مع الطبيب المعتدى عليه، مؤكدة أن ما فعله ينسجم مع الأصول الطبية المعتمدة، محذّرة من خطورة محاولة إجبار الأطباء على اتخاذ قرارات تحت الضغط الشعبي أو العاطفي، ما قد يعرّض حياة المرضى للخطر.

وشدّدت النقابة على أن المسؤولية في مثل هذه الحالات تقع على من أهمل في نقل المريض إلى مستشفى مجهز، وليس على الطبيب الذي رفض المغامرة بصحة المريض، داعية إلى احترام خصوصية الوقائع وتجنب التشهير عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل.
 

أرقام صادمة... العنف في المؤسسات الصحية ظاهرة منهجية
   تشير دراسات حديثة إلى أن مصر من بين الدول الأعلى في معدلات العنف ضد العاملين بالرعاية الصحية. إحدى الدراسات كشفت أن 88% من الأطباء تعرّضوا لإساءات لفظية، و42% واجهوا اعتداءات جسدية، فيما تعرّض 13.2% منهم لتحرش جنسي أثناء العمل.

كما أظهرت دراسة أخرى أن أكثر من 80% من الأطباء شهدوا حادثة عنف واحدة على الأقل خلال عام واحد فقط، وأن 68.4% من هذه الحوادث ارتكبها أقارب المرضى، و25.3% المرضى أنفسهم، بينما وقعت معظم حوادث العنف داخل أقسام الطوارئ، نتيجة لتكدس الحالات، ونقص الإمكانات، والضغط النفسي على الأهالي.
 

قانون المسؤولية الطبية.. خطوة للأمام ولكن
   جاء إقرار قانون المسؤولية الطبية كاستجابة للمطالب المتكررة من نقابة الأطباء، والذي يهدف إلى تنظيم الممارسة الطبية، وتحقيق العدالة في قضايا الخطأ الطبي، وتوفير الحماية القانونية للأطباء من الملاحقات غير العادلة أو الاعتداءات.

ويتضمن القانون عقوبات مغلظة على المعتدين على الطواقم والمنشآت الطبية، ما اعتُبر حينها نقلة نوعية في التشريع الصحي، ورسالة واضحة بأن أي عنف داخل المؤسسة الصحية لن يُقبل.
كما ينص القانون على تشكيل لجان فنية محايدة للفصل في شكاوى الأخطاء الطبية، بدلًا من الاعتماد على التقديرات غير المتخصصة.

غير أن التطبيق الفعلي للقانون لا يزال يواجه تحديات، أبرزها ضعف الوعي المجتمعي بمضمونه، وغياب الحملات التوعوية اللازمة لتثقيف الجمهور بآلية التعامل مع الحوادث الطبية، بالإضافة إلى الحاجة إلى تأهيل الأجهزة القضائية والشرطية لتنفيذه بفعالية.
 

المشكلة أعمق.. أزمة ثقة وثقافة عنف
   يرى خبراء أن جذور الظاهرة لا تقتصر على القصور في التشريعات، بل تمتد إلى أزمة ثقة بين المرضى والمؤسسات الطبية، حيث تؤدي نقص الإمكانيات الطبية، والزحام الشديد، ونقص الكوادر المؤهلة إلى توترات مستمرة، تدفع بعض المواطنين للانفجار غضبًا في وجه الأطباء.

ويحذر مراقبون من أن استمرار هذه الثقافة العدائية تجاه الأطباء قد يدفع بالمزيد من الكفاءات الطبية للهجرة، ما يفاقم من أزمة نقص الأطباء في مصر، ويهدد استقرار المنظومة الصحية بأكملها.
 

نقابة الأطباء.. لا تهاون بعد اليوم
   أكدت النقابة أنها لن تتهاون مع أي اعتداء على أعضائها، وستتخذ كافة الإجراءات القانونية ضد كل من يروّج أو ينشر محتوى يسيء إلى الأطباء أو المؤسسات الصحية، مطالبة الحكومة بتفعيل العقوبات الواردة في القوانين ذات الصلة، وتشديد الحماية الأمنية في المستشفيات والمراكز الطبية، وخاصة في أقسام الطوارئ.

كما دعت النقابة المواطنين إلى التوجّه إلى المستشفيات المجهزة للحالات الطارئة، بدلًا من ممارسة الضغط على العيادات الخاصة التي لا تتوفر فيها وسائل الإنقاذ، مشددة على أن توفير بيئة عمل آمنة للأطباء ضرورة لا رفاهية، لضمان بقاء المنظومة الصحية على قيد الحياة.

https://www.facebook.com/Egyptian.Medical.Syndicate/posts/1115057453984425?ref=embed_post