بقلم: ليلى الشايب

 

كلّما ظنّ أحدنا أن حيّز المهازل قد تضاءل إلى حدّ كبير في المشهد اليومي العالمي، وأنه استُنزِف، ولم يعد فيه مزيد مفاجئ، أو أن بعض الحياء ما زال موجوداً ليمنع سقوطاً أخيراً قد لا تكون بعده عودة، إلا ونثوب إلى "رشدنا"، لنرى هذا الأمل مجرّد سرابٍ في صحراء الجدب الأخلاقي، الذي تتسع رقعته كلّ يوم. اختُصر هذا الإفلاس في كلمة ممثّلة الولايات المتحدة، دوروثي شيا، في مجلس الأمن الأربعاء الماضي، وقبيل عيد الأضحى بيومَين، في جلسة تصويت على مشروع قرار أممي يهدف إلى إنهاء الحرب على غزّة، نسفته مندوبة أميركا بفيتو رسّخ الحاجز المخيف الذي يفصل بعض زوايا ومقاعد مجلس أمن دولي عن باقي العالم، و يعطي ضوءاً أخضرَ لإسرائيل لتواصل حرباً لم تكن، من يوم قرّرتها، بحاجة إلى تزكية من أحد للاستمرار فيها، أو رفع منسوب وحشيتها، فاكتفت بين حين وآخر، ومن باب رفع بعض العتب، بإطلاق أسماء على عمليات تتخلّلها، أو إعلان أهداف جديدة تتبيّن للحكومة المتطرّفة أثناء ارتكاب جرائمها، وكلّه في إطار التسويف والابتزاز والتخويف والترهيب والترغيب والبيع والشراء، الذي طاول عمليات توزيع مساعدات غذائية موهومة، تكشّف أنها كانت صفقةً مع شركة أميركية، فيها توقيع عقود وأموال وأرباح، توزّع كراتين الغذاء والعلب، فيما يحصد القصف أرواح الجائعين وهم يهرولون للوصول إلى علبة تُلقى عليهم من مكان ما.

 

حرفياً وعملياً، قرّرت واشنطن، وهي تهدي الفيتو لإسرائيل، أن بؤساء غزّة الذين لم يحن أجلهم بعد، يستحقّون مزيداً من التجويع، بما أن مشروع القرار كان يأمل في تسهيل إدخال مزيد من الغذاء وبطرق أيسر، ويستحقّون القتل، لأنها قالت لنتنياهو (ببساطة) أن يستمرّ في حربه العبثية الدموية عليهم، وهو يستنبط أفكاراً شاذّةً جديدة للتنكيل بهم. صحيح أنه لا يوجد "رجل" و"امرأة" في السياسة عموماً، أو هكذا يراد ويروّج، إلى درجة أن بعض النساء فيها يتجاوزن حدود القسوة إلى قتل الضمير لإثبات جدارتهن، فإذا بالمندوبة شيا، بملامحها الجافّة وصوتها الروبوتي، تحوّل الحديث عن الحرب إلى مجرّدَ عملية سياسية تقنية لا هامش فيها لمعاناة إنسانية تثير مشاعر التعاطف، وحرب "متكافئةً" تضطر فيها إسرائيل لـ"الدفاع عن نفسها"، فتبارك هذا "الحقّ" وتزكّيه. وكان من سوء حظّها أن تحدّث بعدها مباشرةً مندوب الجزائر، عمار بن جامع، وكانت كلمته مؤثّرة إلى حدّ كبير، لا تترك من يسمعها على حياده، حتى مع الترجمة؛ ذكر، فيما ذكر فيها، الطفلَ الذي قُتل أفراد عائلته كلّهم، وبقي وحيداً يبحث عنهم بين خيام ممزّقة، وامرأةً جاءها المخاض في العراء وهي جائعة... وقصصاً حقيقية أخرى تثير الخجل في من لا يزال يجد متعةً ولذّةً في ممارسة حياته بشكل "طبيعي"، وكشفت الهوّة السحيقة بين تحالف العجرفة والظلم والقوة المطلقة واللوبيّات، وبين فهم آخر للسياسة والديبلوماسية، عندما يتعلّق الأمر بالحاجة الملحّة إلى إنقاذ الضعيف من مخالب الوحش، وهو يستنجد بجدران مؤسّسات الأمم المتحدة، التي أنشئت لهذا، من بين أهداف أخرى. ولكن تلاشى صدى حشرجة غزّة في ردهات المؤسّسة الباهتة بجرّة "فيتو" أصبح محلّ شكّ وغضب متناميَين، ودعوات محمومة لإعادة النظر في جدواه ومدى منطقيته وتمثيليته، وتركت عبارة مندوب الجزائر "سنعود لأن الفلسطينيين يستحقّون الحياة"، التي ختم بها كلمته، حيرةً وأملاً في آن. حيرة من جدوى العودة أمام هذا المحفل العاجز المحبط، وأمل فضفاض في حدوث شيء يغني عن العودة من الأساس.

 

بعدما رُفع شعار "السلام عبر القوة"، وتشاركت واشنطن وتلّ أبيب (نتنياهو تحديداً) رفعه والتبجّح به، ولا ندري حقيقة من استلهمه من الآخر، يجدر التساؤل بجدّية عن معنى السلام المقصود في هذا الشعار، وعن الرعونة التي يبشّر بها من خلال جمع مصطلحَين و هدفَين متناقضَين إلى هذا الحدّ، و يجدر التساؤل بالتالي عن وظيفة مجلس الأمن اليوم، وعن كلّ المقدرات المخصّصة له، والوقت الذي تلتهمه مشاوراته وجلساته التصويتية، وساعات البثّ الإعلامي التي يحظى بها، إذا كانت النتيجة إصدار فتاوى قانونية وسياسية لقتل أبرياء عزّل في هذا العالم، لا يزالون (بعد الخذلان والعجز المخزي) يضعون بقية أمل في جلسة لمجلس الأمن قد تقول: أوقفوا قتلهم، ولكنّها ترفع من دون أن تنطق بهاتَين الكلمتَين. و بعد رفعها، لا يتوقّف كثيرون عند بيانات التنديد بها، وردّات الفعل الصادرة تحديداً من الطرف الذي كان يطلب الحماية في وجه إسرائيل سلطةً ومقاومةً، ولا من الدول والجهات الداعمة لها إنسانياً بالدرجة الأولى، فلم يعد ذلك كلّه حدثاً اليوم، بل الحدث الذي تتراكم عناصره، أو بالأحرى "الحقيقة الجديدة"، التي تكشف ملامحها تدريجياً، هي إفلاس السياسة الدولية ومؤسّساتها وأجهزتها، والفراغ الذي تحاول ملأه باستعراضات من قبيل جلسة مجلس الأمن، التي بالكاد لا يزال يتابعها بعض أهل الاختصاص، وآخرون حريصون على إثبات هذا الفراغ بالدليل.

 

تتصحّر ساحة السياسة الدولية، فيما عدا تعزيز تحالفات محدّدة ضدّ أعداء مفترضين، أو صياغة علاقات جديدة بين الدول عبر العقوبات أو فرض قيود اقتصادية و تجارية، وإغلاق الحدود وطرد المهاجرين ووضع قائمات جديدة للممنوعين من القدوم، فيما تتّسع مساحة تطلق فيها المبادرات "الحرّة" للخلاص الفردي، وأخرى لفرض مشاريع سياسية وجغرافية بالقوة، يرى أصحابها أنه لن يكون هناك توقيت آخر مناسب لتحقيقها، وهو شأن نتنياهو ومشروعه "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يفعل كلّ ما هو صادم من أجل أن يراه ماثلاً أمامه وأمام خصومه، والمجرورين إليه جرّاً. وليست الصياغة المنمّقة لمندوبة أميركا في مجلس الأمن عن "حقّ فلسطينيي غزّة في حياة أفضل ومستقبل واعد و مزدهر"، سوى صدىً لإجرام ترتكبه حكومة نتنياهو منذ تسعة عشر شهراً، منتهاه تغيير جغرافيا الأراضي الفلسطينية، وصولاً إلى "منتجعهم المنشود"، ولا تخطئ النظرة الثاقبة مشاهد كاميرا الجيش الإسرائيلي، وهي تجول تحديداً في المناطق الشاطئية لغزّة، بعدما هُجّر أهلها ودمّرت مبانيها، لتوحي للاوعي الناظر بمدى جاذبيتها، وما يمكن أن تصبح عليه عندما تنجز مشاريعهم العقارية، والمحصّلة، فكرة إجرامية واحدة تُقدَّم في نسخة ديبلوماسية.

 

ونسخة أخرى تعتمد التجويع والقتل والتدمير اليومي، بتواطؤ لم يعد خافياً، يمنح الضوء الأخضر لانتهاج وسائل جديدة لتحقيقها إذا عجزت الوسائل الأخرى، على بشاعتها. ووسط أجواء توحي للمتوهم بقرب انفجار حكومة القتل الإسرائيلية من الداخل، أو إعلان عجز جيشها عن تجنيد ما يفي بحاجته في هذه الحرب أحادية الجانب، تضجّ وسائل الإعلام والمجتمع بتفاصيل مربكة عن تسليح مجموعات محلّية في قطاع غزّة، تتقاطع مع عالم الجريمة، وتتعاون مع الاحتلال، تجربةً مطروحةً للتعامل مع تحدّيات "اليوم التالي" في غزّة. اكتفى مكتب نتنياهو بالقول، عندما طلب منه تقديم توضيحات بشأنها، إن "إسرائيل تعمل على دحر حماس بطرق متعدّدة ومتنوّعة"، وتحتاج بالتالي إلى وقت ودعم رسمي من دوائر عليا لتنفيذ خطّتها الجديدة. وجاءها الدعم من مجلس الأمن بالذات، وهو دعم تحتاجه أيضاً لمضاعفة أرقام استعرضتها وزارة الدفاع الإسرائيلية أخيراً بلا أدنى تحفّظ أو حياء، عن ارتفاع صادراتها من السلاح إلى أعلى مستوىً على الإطلاق، بأكثر من 14.7 مليار دولار العام الماضي، في شكل صفقات ضخمة، وتعبئة للمجهود الحربي بإنتاج متواصل على مدار الساعة لصالح الجيش الإسرائيلي واستمرار التصنيع للعملاء الأجانب.

 

وفي هستيريا التسليح العالمي، التي أصابت حتى الدول التي ساد اعتقاد زمناً طويلاً بأنها استوعبت دروس التاريخ، وقطعت مع صورة بشعة ومهينة دفعت ثمنها غالياً، وأنها أعادت صياغة نفسها، فتقبّلها العالم واحتضنها ورفعها عالياً... تخرج ألمانيا عن رزانتها لتعلن اتجاهها لرفع نسق تصنيع السلاح، وتعزير قدرات الجيش الألماني ليصبح "أقوى جيش تقليدي في أوروبا"، وفيما تبادر دول أوروبية، وأخرى لاتينية، إلى وضع قيود دبلوماسية واقتصادية وعسكرية على إسرائيل، تفاجئ ألمانيا الجميع بتجديد دعمها إسرائيل، ومواصلة إرسال الأسلحة إليها. وأكّد وزير خارجيتها، يوهان واديفول، هذا النهج بالقول إن "أمن إسرائيل من المصالح العليا للدولة الألمانية... ولا يتعارض ذلك مع إمكانية توجيه نقاط نقدية وملاحظات بين الأصدقاء". ملاحظات ودّية يبدو أن ألمانيا تحبّذ صفّها ضمن بيانات أوروبية مشتركة لا تكلّفها شيئاً، وترسخ قدم وزيرة خارجيتها السابقة أنالينا بيربوك في منصبها الجديد رئيسةً للجمعية العامّة للأمم المتحدة.. ويا لها من مفارقة.

 

لقد نجح من هندس خطّةَ بثّ الذعر في العالم من أعداء متربّصين وقوى تتعاظم في صمت قبل أن تلتهم من حولها، نجح خصوصاً في زرع بذرة الشكّ والتوجّس، بدل التعاون والتشارك، ونجح في إطلاق سباق نحو مراكمة السلاح، حتى غير التقليدي منه، لمن لم يكن يفكّر فيه أساساً، ونجح في تغيير النظرة إلى الحدود بين الدول من نقاط التقاء وتنقل، إلى خطوط حمراء يكتنفها الخطر، ونجح خصوصاً في توريط الجميع في هذه الدائرة الجهنّمية، حتى لا تظهر إسرائيل وحدها النموذج النشاز في عالم يفترض به أن يصبح أكثر انفتاحاً وأريحيةً. وفي عالم السياسة المغلق، هكذا تسري العدوى من دون القدرة (أو الرغبة حقّاً) في الوقاية منها، ظنّاً من الفاعلين أن السرعة في التأقلم دليل حصافة وحسن تدبير، أمّا خارج هذه الدائرة فالناس في كلّ قارّات العالم يرون الأمور ببصيرة ووعي يفوقان ما لدى حكوماتهم، وهم لذلك يرابطون إلى اليوم في الساحات ويملؤون الفضاءات الواقعية والافتراضية بحراكهم وأصواتهم وكتاباتهم ومبادراتهم الجريئة، ليبدو مجلس الأمن، وباقي الهيئات التي على شاكلته، بقراراتها وبياناتها، كياناتٍ تسبح في عوالم مغلقة منفصلة عن الواقع الجديد الذي يتشكّل ببطء ولكن بثبات. وقد كان بإمكانها أن تصنع التاريخ وتستبقه، ولكن يبدو أنها تفضّل أن تصبح شيئاً من الماضي، وسيكون لها ذلك.