أمر الشرع الشريف أولياء الأمور أن يُدَرِّبُوا أولادهم على أداء العبادات الواجبة، وأن يعلموهم شرائع دينهم، ولا يتركوهم سدى، بدون تعويدهم على أداء الفرائض الدينية، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ﴾ [التحريم: 6].
كلكم راع
قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (23/ 492، ط. مؤسسة الرسالة): [عن قتادة قال: مروهم بطاعة الله، وانهوهم عن معصيته] اهـ.
وورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفقٌ عليه.
قال المُهَلَّب: "هذه كلها أمانات تلزم مَن استرعيها أداء النصيحة فيها لله ولمن استرعاه عليها" اهـ. يُنظر: شرح البخاري لابن بطَّال (7/ 71، ط. مكتبة الرشد).
وفي رواية للإمام مسلم في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وإن لولدك عليك حقًّا».
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (8/ 43-44، ط. دار إحياء التراث العربي): [فيه: أن على الأب تأديب ولده، وتعليمه ما يحتاج إليه من وظائف الدِّين، وهذا التعليم واجب على الأب وسائر الأولياء قبل بلوغ الصبي والصبية، نص عليه الشافعي وأصحابه، قال الشافعي وأصحابه: وعلى الأمهات أيضًا هذا التعليم، إذا لم يكن أب؛ لأنه من باب التربية، ولهنَّ مدخل في ذلك] اهـ.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ» رواه أبو داود في "سننه".
قال الإمام النووي في "المجموع" (3/ 12-13، ط. المنيرية): [قال الشافعي في "المختصر": وعلى الآباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم، ويعلموهم الطهارة والصلاة. قال الرافعي: قال الأئمة: يجب على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الطهارة والصلاة والشرائع بعد سبع سنين] اهـ.
وقال الإمام ولي الدين أبو زرعة العراقي في "طرح التثريب" (7/ 87، ط. الطبعة المصرية): [الصبيان ليسوا محلًّا للتكليف، فلا يأمرهم الشارع بشيء، وإنما يأمرهم الأولياء بذلك على طريق التمرين، كسائر ما يربونهم عليه] اهـ.
وقال الشيخ ابن القيم في "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص: 229، ط. دار البيان): [فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه] اهـ.
والولي مأمور بأن يهذب ويعلم الصبي الذي في ولايته بأداء العبادات من صيام وصلاة وطهارة وغيرها من أنواع العبادات؛ تدريبًا له على العبادة، وتعويدًا له على أدائها، بشرط أن يكون الصبي مطيقًا لذلك، وأن يستعمل في ذلك الحكمة في اختيار الوسائل التي تحمل الولد على فعل الطاعة، بحيث لا ينفر من العبادة، ولا يلحق به ضرر.
وقد نصَّ الفقهاء على أن الولي عليه أن يأمر الصبي استحبابًا بأداء الفرائض؛ كالصلاة إذا عَقلها، والصوم إذا أطاقه، تدريبًا له على العبادة.
قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار" (1/ 352، ط. دار الفكر): [الصبي ينبغي أن يُؤمر بجميع المأمورات، ويُنهى عن جميع المنهيات] اهـ.
وقال الإمام الخرشي المالكي في "شرح مختصر خليل" (1/ 221-222، ط. دار الفكر): [الصبي ذكرًا أو أنثى يؤمر ندبًا -كالولي على الصحيح- بالصلاة إذا دخل في سبع سنين.. والأمر للصبي بالفعل ولوليه بالأمر بها من الشارع] اهـ.
وقال الإمام الدَّمِيرِيُّ الشافعي في "النجم الوهاج" (2/ 36، ط. دار المنهاج): [يجب على الآباء وإن علوا، وعلى الأمهات والأوصياء والقُوَّام تعليم الأطفال الطهارة والصلاة والشرائع بعد السبع] اهـ.
وقال العلامة منصور البهوتي الحنبلي في "شرح منتهى الإرادات" (1/ 127، ط. عالم الكتب): [(ويلزم الولي أمره)، أي: المميز (بها)، أي: بالصلاة (لـ) تمام (سبع) سنين (و) يلزمه (تعليمه إياها)، أي: الصلاة (و) تعليمه (الطهارة كـ) ما يلزم الولي فعل ما فيه (إصلاح ماله)، (و) كما يلزمه (كفه عن المفاسد)؛ لينشأ على الكمال.. والأمر والتأديب؛ لتمرينه عليها، حتى يألفها ويعتادها، فلا يتركها] اهـ
قال الدكتور ربيع الغفير، الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف، إن حديث 'كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته' يعد من أهم الأحاديث التي تبين المسؤولية الفردية لكل شخص تجاه مجتمعه وأسرته وكل من يعول، لافتًا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يُعلمنا من خلال هذا الحديث العظيم أن كل فرد منا في هذه الحياة مكلف ومسؤول عن شيء ما.
حياة المسلم اليومية
وأوضح الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف، خلال حوار مع الإعلامي شريف فؤاد، بحلقة برنامج "مع الناس"، المذاع على قناة الناس، الثلاثاء الماضي، أن هذا الحديث يُكمل المنظومة القرآنية الجميلة التي تُغرس في قلب المسلم، حيث نجد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحث على المسؤولية، وفي السنة النبوية نجد توضيحًا لها بشكل عملي في حياة المسلم اليومية.
وأضاف: "النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال 'كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته'، بيّن أن المسؤولية تشمل الجميع، سواء كان الأب مسؤولًا عن بيته أو الزوجة عن مال زوجها، أو حتى الخادم في مال سيده، فكل واحد منا مسؤول عن رعيته".
وأكد أن هذه المسؤولية تتضح في حديث آخر عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع"، وهو حديث يوضح أهمية المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق كل فرد في الحياة.
وأضاف: "المسؤولية هنا ليست مجرد واجب ديني، بل هي شعور عميق بالمسؤولية تجاه كل ما أُوكل إلينا، سواء كانت مسؤولية تجاه الدين، الوطن، الأسرة أو المجتمع ككل".
القرآن الكريم والسنة النبوية يغرسان المسؤولية
وتابع: "القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة يغرسان فينا هذا الإحساس بالمسؤولية، لكي يدرك كل شخص فينا أنه مكلف أولًا بمسؤولية تجاه نفسه، ثم تجاه أسرته، وتجاه وطنه".
وتابع: "الرسالة تبدأ من البيت، حيث يُكلف الرجل بواجباته في رعاية أسرته، فتجد في القرآن الكريم قول الله تعالى: 'وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا'، هذه مسؤولية كبيرة، يجب على الأب أن يُرَبّي أولاده على الصلاة ويصبر عليهم حتى ينشئوا على العبادة".
التربية من أهم المسؤوليات التي يتحملها الوالدان
وأشار إلى أن التربية من أهم المسؤوليات التي يتحملها الوالدان، مشيرًا إلى الحديث: "ما نحل والد ولدا أفضل من أدب حسن"، وأيضًا الحديث الشريف الذي يقول: "ربوا أولادكم وأحسنوا أدبهم"، مؤكدًا أهمية التربية الحسنة لأنها مسؤولية سيُسأل عنها الإنسان يوم القيامة.
وأضاف: "بالتأكيد، ستسأل عن هذا الجيل الذي قمت بتربيته، هل حافظت على هدايته أم ضيعت حقه؟.
وقال: "كل واحد منا هو راعٍ في موقعه، وكل فرد مطالب بالعناية بما هو تحت مسؤوليته، سواء كان ذلك في البيت أو في المجتمع، وهذه مسؤولية عظيمة سنُسأل عنها يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى".
ختامًا، أكد الدكتور ربيع أن هذه المبادئ الإسلامية التي تحث على المسؤولية الفردية والجماعية يجب أن تكون أساسًا في حياة كل مسلم، وأننا جميعًا مطالبون بأن نكون مسؤولين عن أنفسنا، أسرنا، ومجتمعاتنا.