قال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي إن هجرة الأطبّاء المصريين من بلدهم ليست عيباً، وإن جزءاً من سياسة الدولة يقوم على تشجيع الشباب على إيجاد فرص جيّدة في أيّ مكان، سواء من الأطبّاء أو المهندسين أو أيٍ من القطاعات الأخرى، لاكتساب خبرات وليكونوا جزءاً من القوّة الناعمة لمصر، ومصدراً للعُملة الصعبة للدولة. وأوضح مدبولي أنه لا مشكلة لو هاجر عشرة آلاف طبيب من نحو 29 ألف طبيب سيتخرّجون بعد بضعة أعوام. ... وجاء هذا التصريح على خلفيّة اندلاع جدل بشأن هجرة الأطبّاء المصريين، بعدما كشف أستاذ بكليّة الطبّ في جامعة الإسكندريّة عن تقديم 117 طبيباً استقالاتهم من العمل في المستشفيات الجامعيّة ومعهد البحوث الطبيّة التابع للجامعة، التي نَفَت في بيانٍ وجود أزمة، واعتبرت الأمر ضمن الخيارات الشخصيّة وفقاً للقوانين، وأعلنت عن جلسة علنيّة بعد أيّام لتعيين أطبّاء امتياز وحديثي التخرّج لشغل الوظائف التي شَغُرَت.

 

ولم يكن هذا هو المشهد الأوّل من نوعه الذي شهده الفضاء الطبّي في مصر باستقالات شبه جماعيّة لشبان أطبّاء يعانون من العمل في ظروفٍ قاسيةٍ ورواتبٍ هزيلةٍ في المستشفيات الحكوميّة، ما يدفعهم دفعاً إلى الهجرة إلى دول الخليج أو دول غربيّة. ومشهد الاستقالات وتصريحات رئيس الحكومة حافل بدلالات كثيرة عن المنظومة الصحيّة في مصر تستحقّ التوقّف، لكن فهمها لا يمكن إلا بتوسيع دائرة الرصد والتحليل إلى دلالات مشاهد أخرى، وقعت تباعاً في القطاع الطبّي المصري بشقّيْه العامّ والخاصّ، خلال السنوات الماضية، فقد حصدت جائحة كورونا أرواح أطبّاء كثيرين تساقطوا إبّان الموجة الوبائيّة، ولم يتوقّف الأمر عند هذا، بل امتدّ إلى نشوب خلاف بين نقابة الأطبّاء ووزارة الصحّة بشأن عدد الضحايا من الأطبّاء، تطوّر إلى تبادل الاتهامات العلنيّة بين الطرفيْن، فبينما كانت النقابة تُعلن في مايو/ أيار 2021 عن وصول عدد ضحايا كورونا من الأطبّاء إلى 500، أصرّت الوزارة على أن العدد الصحيح 115 فقط سقطوا في مستشفيات العزل، وبقيّة العدد إصابات مجتمعيّة، في حين وجّهت النقابة اتهاماً إلى الوزارة بإصدار بيانات غير دقيقة، بغرض التخفيف من وقع الكارثة، لا سيّما ما يتعلّق بأوضاع عمل الأطبّاء في المستشفيات ونسبة إصاباتهم ووفيّاتهم.

 

في سياق آخر، وفي نهاية عام 2020، أُبرِمَت صفقة كبيرة وُصِفَت بأنّها "صفقة القرن الطبيّة"، وأنها من أكبر صفقات الرعاية الطبيّة في أفريقيا والشرق الأوسط، بين جهتيْن من أكبر مقدّمي الخدمات الطبيّة الخاصّة في مصر، جرى بموجبها توقيع اتفاق دمج بين شركة كليوباترا المالكة لمستشفى كليوباترا والقاهرة التخصّصي، والكاتب، والشروق، وكوينز، والنيل بدراوي، ومعامل المُختبَر، والبرج للتحاليل الطبيّة، مع شركة ألاميدا الإماراتيّة المالكة لمستشفيات دار الفؤاد بأكتوبر ومدينة نصر والسلام الدولي، والسلام بالقطّاميّة، ومعامل إليكسرا، ويوني لاب للتحاليل الطبيّة. وبموجب الصفقة التي وصفها جهاز حماية المُستهلِك بأنها "مثال صارخ للاحتكار في مجال الرعاية الصحيّة"، أصبحت "كليوباترا" الطرف المُستحوِذ على الرعاية الطبيّة الخاصّة في مصر، من دون منافسٍ أو منازعٍ، وكانت "كليوباترا" قبل تلك الصفقة المالك الأكبر لعدد أسرّة القطاع الخاصّ الطبّي في مصر تليها "ألاميدا".

 

وفي مايو 2024، أقرّ البرلمان المصري القانون رقم 87 المُسمّى "تنظيم منح المرافق العامّة لإنشاء وتشغيل وتطوير المنشآت الصحيّة"، والذي يُتيح تأجير المنشآت الصحيّة الحكوميّة لمستثمرين من المصريين والأجانب. رغم اعتراضات كبيرة لنقابة الأطبّاء على مشروع القانون، حيث أكّد نقيب الأطبّاء المصرييّن أسامة عبد الحيّ أن مشروع القانون يحمل إضراراً بالمواطن المصري محدود الدخل، موضحاً أن الهدف الرئيسي للمستثمر هو الربح الذي أطلقت الحكومة قيوده في مشروع القانون، ليقدّم الخدمة الصحيّة للمواطن من دون حدٍّ أقصى لسعرها. وأشار النقيب إلى عدم وجود أيّ ضمانات في مشروع القانون لالتزام المستثمر بالنسبة المُحدّدة لعلاج مرضى التأمين الصحّي ونفقة الدولة، كما أنه يهدّد استقرار 75% من العاملين في المنشآت الصحيّة التي تنوي الحكومة تأجيرها، حيث أتاح القانون للمستثمر الاستغناء عنهم، وأن يُعاد توظيفهم بمعرفة وزارة الصحّة في أماكن أخرى. وأوضحت الحكومة أنها ستقوم بالرقابة والإشراف على عمل المستثمرين، والتزامهم بالضوابط القانونيّة في إدارة المنشآت الصحيّة المُؤجَّرَة، بينما قالت المعارضة في البرلمان إن الحكومة فشلت في القيام بعملها في الإدارة، فكيف ستقوم بالرقابة على العمل في تلك المنشآت؟!

 

المُشترك في هذه المشاهد رغبة الحكومة في التحلّل من التزاماتها في الرعاية الصحيّة، وتقليص الإنفاق الحكومي على القطاع الصحّي، بتوسيع دور "الاستثمار الطبّي" من دون ضوابط، وتتعيّن الإشارة هنا إلى أن للدولة دوراً ووظائف اجتماعيّة، ولا سيّما في قطاعي الصحّة والتعليم، لا يمكنها التخلّي عنها، وتقف في كلّ الأحوال عند درجة الحدّ الأدنى حتى في أعتى الرأسماليّات، وفقاً لما يُعرَف في علم السياسة بمصطلح "الدولة الحارسة". والمفارقة الطريفة أنّ تصريحات مدبولي عن هجرة الأطبّاء تأتي في ظلّ نكوث الحكومة بالتزامها الدستوري بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحّة لا تقلّ عن 3% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيّاً حتى تتفق مع المعدلات العالميّة وفقاً للمادّة 18 من الدستور.

 

اللافت أن هناك تسليعاً فجّاً للخدمات الصحيّة في مصر، وهو جزء من موجة "الرَسْمَلَة" العاتية التي زحفت على كل القطاعات الخدميّة الأخرى، بدءاً من التعليم، ومروراً بالإسكان، وليس انتهاءً بالصحّة والخدمات العلاجيّة، وهي قطاعات من المُفترَض أن تقوم الدولة بدور كبير فيها، من أجل حماية الفئات الفقيرة، عبر تقديم خدمات حكوميّة ذات قدرٍ من الجودة بأسعارٍ معقولةٍ في متناول الطبقة الوسطى من جهة، ومن أجل وضع ضوابط صارمة تمنع الاحتكار، وتشجّع المنافسة في خدمات القطاع الخاصّ من جهة أخرى.

 

النقطة الأهمّ أن ثمّة قاعدة مهمّة تقول: التعليم والصحّة جناحا التنمية المُستدَامَة، وهما أساس الاستثمار في الإنسان أو البشر، الذي يتقدّم على الاستثمار في البنيان أو الحَجَر، فإذا ما أردنا أن نعرف صورة المستقبل في بلدٍ ما فلننظر إلى أحوال المنظومتيْن التعليميّة والصحيّة فيه، فقد تكون الدولة ذات نظام سلطوي، لكن المنظومتيْن التعليميّة والصحيّة فيها تعملان بمستوى جيّد من الكفاءة، فهذا يعني الحفاظ على درجة معقولة من جودة المُنتَج البشري، الذي ينعكس على درجة الوعي، ومستوى العقليّة، والقدرات الاقتصاديّة للدولة، ما يرفع من شأن الدولة وقدرتها على التأثير في محيطيها الإقليمي والدولي، كما يعني أن فرصة التحوّل الديمقراطي فيها تكون أفضل بمراحل من دولة تعاني فيها منظومتا التعليم والصحّة من درجات متفاوتة من الفشلٍ الوظيفي الناتج عن مشكلاتٍ هيكليّةٍ تحتاج معالجاتٍ جذريّةً.

 

وهذا ما حدث بالفعل في بعض دول أوروبا الشرقيّة التي تحوّلت إلى النظام الديمقراطي بعد انهيار سور برلين، حيث ورثت النُظم الجديدة مستشفيات حكوميّة تُعالج، ومدارس وجامعات حكوميّة تُعلّم، في حين فشل التحوّل في دول أخرى ورثت مستشفيات بائسة لا تُعالج وجامعات منهارة لا تُعلِّم.