توفى الرئيس التونسي الأسبق فؤاد المبزع عن عمر ناهز 91 عامًا، بعد حياة سياسية امتدت لعقود وشهدت منعطفات كبرى في مسيرة الدولة، كان أبرزها توليه رئاسة الجمهورية مؤقتًا في واحدة من أكثر اللحظات حرجًا بعد الثورة التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي في يناير 2011. المبزع، الذي وُلد في العاصمة تونس عام 1933، لم يكن مجرد سياسي مخضرم تنقّل بين الوزارات والمناصب العليا، بل بات رمزًا لمرحلة انتقالية فريدة، حيث مثّل الجسر بين نظام سلطوي انهار، وآخر ديمقراطي لم تتضح معالمه بعد. رجل الظل الذي خرج إلى الواجهة عرف التونسيون فؤاد المبزع طوال عقود كرجل مؤسسات لا يُحدث ضجيجًا، لكنه حاضر دائمًا في مواقع القرار. شغل مناصب وزارية عدة في مجالات الشباب والرياضة، الصحة، الثقافة، والإعلام، كما تولى رئاسة بلدية تونس، ومديرية الأمن الوطني، ومناصب دبلوماسية هامة كسفير ومندوب لدى الأمم المتحدة. لكن ذروة حضوره السياسي تجلّت في 15 يناير 2011، حين تولى رئاسة الجمهورية بصفة مؤقتة بعد ساعات من فرار بن علي. ورغم أن اختياره كان في بدايته موضع جدل، باعتباره جزءًا من منظومة الحكم السابقة، إلا أن شخصيته الهادئة وحرصه على الاستقرار منحاه شرعية في أعين كثير من التونسيين. الانتقال السلس في زمن الفوضى قاد المبزع البلاد خلال 11 شهرًا حافلة بالتحديات والقلق، وسط انهيار أجهزة الدولة، وصراع القوى السياسية، واحتقان الشارع. وتمكن إلى حد بعيد من الحفاظ على تماسك الدولة وتهيئة الأجواء السياسية لإجراء أول انتخابات حرة بعد الثورة، سلّم بعدها السلطة للرئيس المنتخب من قبل المجلس التأسيسي، المنصف المرزوقي، في مشهد غير مألوف في جمهوريات العالم العربي. وقد علّق أحد المقربين منه على وفاته قائلًا: "لقد كان فؤاد المبزع شخصية ملتزمة بخدمة تونس وشعبها، وسيظل دائمًا رمزًا للانتقال التاريخي الذي شهدته بلادنا." رجل السياسة والاعتدال لم يكن المبزع رجل صدامات أو خطابات حماسية، بل آمن بالمؤسسات والعمل الهادئ خلف الكواليس، وكان يجيد إدارة التوازنات أكثر من صناعة التحولات. وربما لهذا السبب حظي باحترام أطياف مختلفة، حتى من بين خصوم النظام السابق، لما عرف عنه من اعتدال وحكمة. وكانت وكالة الأنباء التونسية قد أعلنت وفاته مساء أمس الأربعاء، مؤكدة أن البلاد فقدت "رئيس الجمهورية الأسبق، رئيس مجلس نواب الشعب الأسبق". من المدرسة الصادقية إلى قصر قرطاج نشأ المبزع في بيئة تعليمية نخبوية، إذ تلقى تعليمه في المدرسة الصادقية العريقة، ثم واصل دراسته في فرنسا حيث تخصص في القانون والاقتصاد. ولم تلبث مسيرته السياسية أن بدأت مبكرًا، إذ انتُخب نائبًا لأول مرة عام 1964، واستمر في البرلمان لسبع ولايات متتالية، قبل أن يُنتخب رئيسًا له في 1997 حتى سقوط النظام في 2011. إرث المبزع: السؤال عن "الرمز الانتقالي" برحيل فؤاد المبزع، تخسر تونس أحد رجالات "المرحلة الرمادية" بين نظامين، رجل لم يكن ثوريًا، لكنه لم يقف ضد الثورة. لم يكن إصلاحيًا راديكاليًا، لكنه ساهم في إنقاذ البلاد من الفوضى. ورغم أن اسمه قد لا يتصدر قوائم الزعماء الكبار، إلا أن إرثه كـ"رئيس الضرورة" سيظل حاضرًا في الذاكرة الوطنية، حين تطلبت اللحظة رجلًا يستطيع تهدئة البلاد لا إشعالها، وحين كانت الحاجة إلى رجل دولة أكثر من الحاجة إلى رجل سياسة.