في ظل استمرار أزمة الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط، لوحظ انخفاض ملحوظ في أعداد المهاجرين الذين نجحوا في عبور هذا البحر إلى الضفة الأوروبية، حيث بلغ عددهم نحو 65 ألف شخص خلال العام الماضي، وهو ما يمثل نصف الأعداد مقارنة بعام 2023 الذي شهد وصول 125 ألف لاجئ إلى سواحل أوروبا، وغالبيتهم من ليبيا وتونس.
ومع أن هذا الانخفاض قد يبدو في الظاهر إشارة إلى تحسن أوضاع المهاجرين، إلا أن الحقيقة تكمن في تأثير السياسات الصارمة التي تتبعها الدول الأوروبية، وخصوصاً إيطاليا، في التعامل مع تدفق المهاجرين.
العام الماضي شهد حدوث أكثر من 9,700 وفاة في البحر، في حين تزايدت الدعوات الحقوقية لتحديد أسباب هذه الظاهرة المرعبة، فقد أكدت منظمة "كامنندو فرونتيراس" غير الحكومية أن 2023 كان "أكثر الأعوام دموية"، حيث ارتفعت حصيلة الضحايا إلى أكثر من 10,400 مهاجر سقطوا خلال محاولات عبورهم للمحيط الأطلسي إلى جزر الكناري الإسبانية.
لكن السبب الرئيسي لهذا الانخفاض يعود إلى التشديدات التي فرضتها الحكومة الإيطالية بقيادة رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، ففي إطار مساعيها للحدّ من الهجرة، وقّعت ميلوني اتفاقات ثنائية مع دول شمال إفريقيا، مثل ليبيا وتونس، بهدف الحد من تدفقات الهجرة السرية، وقدّم الاتحاد الأوروبي دعماً لهذه السياسات عبر تزويد هذه الدول بمساعدات مالية ومعدات لملاحقة القوارب المهاجرة.
وتستمر إيطاليا في الدفاع عن هذه السياسات المشددة رغم الانتقادات الحقوقية التي طالتها، إذ تُتّهم روما بدعم قمع المهاجرين في بعض البلدان على غرار ليبيا، حيث يتعرض المهاجرون لظروف مروعة قد تشمل إطلاق النار على القوارب أو إغراق بعضها، وتفاخر ميلوني بنجاحاتها في تقليص تدفق المهاجرين نحو سواحل بلادها، رغم الأضرار الإنسانية الجسيمة التي خلفتها هذه السياسات.
من جهة أخرى، فإن الانخفاض في أعداد المهاجرين قد يكون له تبعات إنسانية وأخلاقية كبيرة، بحسب ما يراه متخصصون في شؤون الهجرة، فبعض الخبراء، مثل أستاذ الأنثروبولوجيا السياسية لويجي أتشيلي، يشددون على أن هذه السياسات قد تحقق نتائج سياسية على المدى القريب، لكنها تظل غير موثوقة ولا تحل جذور المشكلة، كما أشار إلى أن المهاجرين الذين لا يستطيعون مغادرة ليبيا قد يبحثون عن طرق أخرى للهجرة، ما يؤدي إلى تزايد حركات الهجرة غير النظامية.
وفي سياق هذه السياسات، انسحبت العديد من المنظمات الإنسانية مثل "أطباء بلا حدود" من عمليات الإنقاذ، بسبب التشريعات الإيطالية الصارمة التي تعرقل عمل السفن الإنسانية، وقد قامت الحكومة الإيطالية بفرض غرامات مالية ضخمة على المنظمات التي تستمر في عمليات الإنقاذ، ما دفع بعضها إلى تعليق هذه الأنشطة.
وفي بداية عام 2024، لقي 27 مهاجراً حتفهم قبالة شواطئ مدينة صفاقس التونسية، كما غرق 20 مهاجراً آخرين خلال محاولة عبورهم البحر من ليبيا إلى إيطاليا، وتستمر هذه الحوادث المأساوية في التكرار، بينما تشير بيانات منظمة الهجرة الدولية إلى فقدان عشرات الآلاف من الأرواح خلال السنوات العشر الماضية، خاصة في الرحلات من تونس وليبيا نحو جزر لامبيدوزا الإيطالية وغيرها من السواحل الأوروبية.
وبينما تستمر الدول الأوروبية، بقيادة إيطاليا، في تعزيز سياسات الهجرة المتشددة، يبقى البحر الأبيض المتوسط مقبرة حقيقية للمهاجرين الذين يتحدون المخاطر بحثًا عن حياة أفضل في أوروبا، في ظل غياب الحلول الجذرية التي تعالج الأسباب الأساسية لهذه الهجرة الجماعية.

