قال ممثل منظمة الصحة العالمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الدكتور ريك بيبركورن، يوم الخميس، إن الجميع في غزة سيحتاجون إلى دعم نفسي. وأشار إلى أن سكان غزة الذين يزيد عددهم على مليوني نسمة كانوا في السابق مثقلين بسنوات طويلة من الصراع والحصار الذي فرضته إسرائيل.

وتابع بيبركورن، في كلمته عبر رابط فيديو من منظمة الصحة، التابعة للأمم المتحدة في جنيف، أن بعض موظفي منظمة الصحة العالمية الموجودين على الأرض يعانون أيضًا من مشكلات تتعلق بالصحة العقلية.

 

معاناة أطفال غزة

ووفقًا لتقارير إعلامية، فقد انقلبت حياة أطفال غزة، فجأة، رأسًا على عقب، انتُزعوا من مقاعدهم الدراسية. الأقلام التي كانوا يستخدمونها لكتابة مستقبلهم أصبحت لكتابة أسمائهم على أجسادهم كي يتم التعرف عليهم فيما لو أصيبوا بالقصف.

غالبيتهم نزحوا مع أهاليهم من بيوتهم، تاركين ألعابهم وذكرياتهم الجميلة، ليجدوا أنفسهم إما في مدارس أو مستشفيات أو في بيوت أقاربهم أو في خيام، يبحثون عن أمان غير متوفّر في أي مكان داخل القطاع، وفق ما يرويه سكان غزة.

حرم أطفال غزة من النوم الذي بات مرادفًا بالنسبة لهم للموت، فقد باتوا يخشون إطباق أعينهم كي لا يغافلهم صاروخ فيطبق عليهم السقف محوّلا سكنهم إلى قبر، ويلحقوا بـ 3900 طفل فارقوا إلى حد الآن الحياة، في حين لا يزل حوالي الألف في عداد المفقودين.

مشاهد الأطفال الذين يتم إنقاذهم من تحت الأنقاض والرعب في عيونهم داخل المستشفيات وهم ينتظرون العلاج، كفيلة بأن تعكس مدى الهلع الذي يعيشونه، منهم من التهمت النيران جسده ومنهم من فقد أحد أطرافه أو خسر فردًا أو أكثر أو حتى كل عائلته، ليجد نفسه وحيدًا وسط هذا النزاع الدموي.

 

 

تكلفة بعيدة المدى

منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، "أصبحت غزة مقبرة لآلاف الأطفال. إنها جحيم حي للجميع"، بحسب ما وصف المتحدث باسم اليونيسف، جيمس إلدر، قائلًا: "إن أسوأ مخاوفنا بأن تصل أعداد الأطفال الذين قُتلوا إلى العشرات، ثم المئات، وفي نهاية المطاف الآلاف، قد تحققت في أسبوعين فقط. الأرقام مروعة".

ولفت إلدر خلال مؤتمر صحفي إلى الصدمة النفسية، التي يعاني منها أطفال غزة، بالقول: "عندما يتوقف القتال، فإن التكلفة على الأطفال ومجتمعاتهم ستتحملها الأجيال القادمة. قبل هذا التصعيد الأخير، تم تحديد أكثر من 800 ألف طفل في غزة، أي ثلاثة أرباع إجمالي عدد الأطفال في القطاع، على أنهم بحاجة إلى الدعم الصحي النفسي والدعم النفسي الاجتماعي. وذلك قبل هذا الكابوس الأخير".

وأشار إلى ما تعانيه ابنة موظفة في اليونيسف، تبلغ من العمر 4 سنوات، حيث تظهر عليها "أعراض شديدة من التوتر والخوف، وهي الآن تؤذي نفسها، مثل نزع شعرها وخدش فخذيها حتى تنزف. ومع ذلك، ليس لدى والدتها الرفاهية للتفكير في الصحة النفسية لأطفالها".

هي ليست الحرب الأولى التي يشهدها أطفال غزة، وقبيل تصاعد العنف عام 2021، كان ثلث الأطفال بحسب اليونيسف "بحاجة بالفعل إلى الدعم في مجال الصدمة المتصلة بالنزاع. وبدون شك، فقد ازدادت كثيرًا حاجة الأطفال إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي-الاجتماعي".

وسبق أن خلص تقرير صدر عام 2022 عن منظمة "أنقذوا الطفولة" إلى أن الرفاهية النفسية والاجتماعية للأطفال في غزة كانت عند "مستويات منخفضة بشكل مثير للقلق" بعد 11 يومًا من القتال، في عام 2021، مما جعل نصف أطفال غزة بحاجة إلى الدعم.

وخلال الحرب الدائرة حاليًا، أشارت اليونيسف إلى أن كل طفل في قطاع غزة تقريبًا "تعرض لأحداث وصدمات مؤلمة للغاية، اتسمت بالدمار واسع النطاق، والهجمات المتواصلة، والنزوح، والنقص الحاد في الضروريات الأساسية مثل الغذاء والماء والدواء".

من بينهم أطفال.. عائلات فلسطينية تشيع شهداء سقطوا جراء العدوان الإسرائيلي  (فيديو) | أخبار طوفان الأقصى | الجزيرة مباشر

 

عوارض مباشرة

لن يخرج طفل سالمًا من هذه الحرب، فمن لم يصب جسديًا حتى الآن، لن يسلم من الإصابة بصدمة نفسية من أصوات القذائف والصواريخ ومشاهد الموت والدمار وفقدان الأهل والأحباب، وعوارض الصدمة قد تظهر بصورة مباشرة أو على المدى الطويل، بحسب ما تقوله الاختصاصية النفسية، الدكتورة ريما بجاني.

وتضيف بجاني: "تؤثر الصدمة على المستويات الذهنية والنفسية للطفل، وكيفية نمو شخصيته وثقته بنفسه وبالوضع وبالمحيطين به. وفيما يتعلق بالعوارض المباشرة فهي تختلف من طفل إلى آخر، بحسب شخصيته ومدى تفاعل عائلته معه ودرجة مأساوية الوضع"، وفقًا لموقع "الحرة".

ومن العوارض المباشرة كذلك تقول بجاني: "القلق بأقصى الحدود وعدم القدرة على النوم والتبول غير الإرادي، وكذلك الهلع من الأصوات المباشرة وغير المباشرة التي تمتّ بصلة إلى أصوات القذائف والصواريخ، والتعلّق الإضافي بالأهل، ورؤية الكوابيس خلال النوم".

وتشير بجاني إلى أن بعض الأطفال لا يتفاعلون مع الوضع آنيًا، لكن تظهر عليهم عوارض الصدمة النفسية على المدى البعيد، وتوضح: "بعد انتهاء الحرب وتداعياتها، تبقى رواسبها في أعماقهم، لذلك خضوعهم للعلاج النفسي أمر ضروري كي لا يكملوا بنمط القلق الذي يعيشونه والذي قد يرتفع منسوبه وصولًا إلى انفجاره فجأة، فقد يعيش الطفل حياة طبيعية لكن أبسط الأمور تذكره بالحرب فيعود إلى حالة القلق الكبيرة وعوارضها من نوبات ذعر واكتئاب".

وتضيف "لا شك أن الأطفال الذين فقدوا أحد والديهم أو كليهما سيعانون من فقدان السند إضافة إلى فقدان الاستقرار المتمثل بالنزوح من مكان إلى آخر، كما سيعانون من زعزعة شخصيتهم النفسية وفقدان الثقة بالمحيط، في وقت يفقدون فيه كل مقومات الحياة الطبيعية، أي أنهم يكبرون في وضع غير صحي تمامًا، وفي المستقبل قد ينمّي بعضهم قدرات للدفاع عن النفس، لكن منهم من ستنمو النزعة العدائية لديهم".

تقرير أممي: استشهاد 500 طفل في غزة منذ بدء العدوان على القطاع - شفقنا العربي

 

ندوب عميقة

كذلك تعتبر مديرة جمعية "مفتاح الحياة"، الاختصاصية النفسية والاجتماعية، لانا قصقص، أنه "عندما يتعرض الطفل لأي نوع من الصدمات تتشكل لديه ذاكرة صدمية، وعند مواجهة أي مثير مشابه فيما بعد سيسترجع شعوره السابق والأفكار التي راودته حينها وكذلك تصرفاته، بمعنى إذا شعر بالخوف خلال الحرب أو تجمّد شعوره أو كانت لديه ردود فعل عصبية سيعيش نفس اللحظات لدى سماع مثيرات تذكّره بالحرب".

وتشير قصقص، إلى أن فقدان الأطفال لأهاليهم يشعرهم بالمظلومية والحرمان الكبير غير الطبيعي والمتوقع، "ويترك آثاره عند كبرهم مشاكل نفسية واضطرابات ما بعد الصدمة المزمنة، وربما قلقًا من الانفصال".

يمكن أن تستمر عوارض الصدمة النفسية، بحسب بجاني، "إذا لم يخضع الطفل للعلاج، فترافقه في حياته وكأن الحرب لم تنته"، مشيرة إلى أنه "ليس لدى الأطفال القدرة على فصل تفاعلهم العاطفي مع ما يدور حولهم، فيما الأهل يعيشون حالة من الخوف تحول دون تمكّنهم من مساعدة صغارهم على تنمية قدراتهم للمواجهة".

من جانبها، تقول قصقص: "هذا النوع من الصدمات يحفر عميقًا في الذاكرة، والشفاء منها يتطلب علاجًا من ضمنه تقنيات الاسترخاء".

يذكر أن 70 في المئة ممن قتلوا في قطاع غزة خلال الأسابيع الثلاثة الأولى للحرب، هم من الأطفال والنساء، بحسب ما ذكرته منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".

 

 

انتهاكات جسيمة

واعتبرت المديرة الإقليمية لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أديل خضر، أن "قتل وتشويه واختطاف الأطفال، والهجمات على المستشفيات والمدارس، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، تشكل انتهاكات جسيمة لحقوق الأطفال".

وقالت خضر: "بدون وصول المساعدات الإنسانية، يمكن أن تكون الوفيات الناجمة عن الهجمات مجرد غيض من فيض. سوف يرتفع عدد الوفيات بشكل كبير إذا بدأت الحاضنات في الفشل، وإذا أظلمت المستشفيات، وإذا استمر الأطفال في شرب مياه غير آمنة ولم يتمكنوا من الحصول على الدواء عندما يمرضون".

ويخضع القطاع، منذ عام 2007، لحصار بري وبحري مشدد من قبل إسرائيل، يُمنع بموجبه المدنيون، إلى جانب السلع مثل الغذاء والدواء، من التحرك بسهولة عبر الحدود، مما أسهم في ارتفاع مستويات الفقر وتعرض السكان لظروف اقتصادية قاسية.

وكان المتحدث باسم اليونيسف، إلدر، أشار إلى أن التهديدات التي يتعرض لها الأطفال تتجاوز القنابل وقذائف الهاون، قائلًا إن "وفيات الرضع بسبب الجفاف تشكل تهديدًا متزايدًا في غزة، حيث يقدر إنتاج المياه بـ5% من الكم المطلوب، وذلك بسبب تعطل أو تضرر محطات تحلية المياه أو افتقارها إلى الوقود".

وكرر إلدر الدعوة "بالنيابة عن 1.1 مليون طفل في غزة ممن يعيشون في هذا الكابوس"، للوقف الفوري لإطلاق النار لأغراض إنسانية، وفتح جميع نقاط الوصول لدخول المساعدات الإنسانية بشكل مستدام.