"مَنْ عنده بندقية "فليخرجها فقد آن أوانها.. فقد انتهى الوقت الذي يعربد فيه الاحتلال دون محاسب".
"ابدأوا بالزحف الآن نحو فلسطين، ولا تجعلوا حدودًا ولا أنظمة ولا قيودًا تحرمكم شرف الجهاد والمشاركة في تحرير المسجد الأقصى".
هكذا بدأ محمد الضيف معركة "طوفان الأقصى"، في حديث واثق ومباشر، وبلهجة قوية وحاسمة، وبأهداف مرسومة ومحددة، وبرؤية واسعة ومستشرَفة.
لم يعرف الكثيرون عن الضيف إلا أنه جندي ومحارب ومجاهد صلب تعتقد للوهلة الأولى بأنك أمام جنرال حاد الملامح لا تعرف الابتسامة طريقها إليه، لكنه عكس ذلك تمامًا فهو رجل وديع، رقيق، حنون للغاية، وصاحب دعابة وخفة ظل، وفقا لروايات مؤكدة من مقربين عرفوه عن قرب.
شخصية بسيطة بشكل لافت، يتحلى بالهدوء والاتزان، والميل إلى الانطوائية، ويقولون إن له قلبًا نقيًا لا يعرف الحقد، ولا يحمل غلاً، ولا إثمًا، ولا حسدًا.
يعرف بأنه صبور جدًا، ولدرجة تثير الدهشة، حيث يستطيع مثلاً الاختباء في غرفة واحدة لمدة عام كامل، دون أن يخرج منها أو يشعر بالملل أو الضجر.
ربما يكون أكثر شخص مطلوب في هذا الكوكب للكيان الصهيوني لذلك تنطبق عليه مقولة، رجل لا يرى ولا يعرف مكانه، بينما ترى أفعاله.
لا يستخدم التكنولوجيا، ذكي وسريع البديهة، وليس محبًا للظهور، يخاطب أنباء شعبه وأمته عبر رسائل صوتية.
الولادة والنشأة
ولد محمد دياب إبراهيم المصري، الشهير باسم محمد الضيف عام 1965، لأسرة فلسطينية لاجئة من بلدة القبيبة داخل فلسطين المحتلة عام 1948، عاش حياة التشرد في مخيمات اللاجئين قبل أن تستقر أسرته في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة.
نشأ في أسرة فقيرة واضطر للعمل في عدة مهن لمساعدة أسرته، بالإضافة إلى العمل مع والده في محل "الغزل والتنجيد" الذي كان يعمل به.
اضطرته هذه الظروف الصعبة خلال دراسته إلى محاولة إقامة مشاريع كي ينفق على نفسه، حيث أنشأ مزرعة صغيرة لتربية الدجاج، ثم قام باستصدار رخصة قيادة سيارة، إلا أن مطاردته من قبل قوات الاحتلال لم تسمح له بالعمل في مهن أخرى.
أثناء دراسته في الجامعة الإسلامية بغزة كان من أبرز الناشطين في الكتلة الإسلامية في الجامعة الإسلامية بغزة، انضم لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين التي كانت وقتها تركز عملها على الدعوة الإسلامية والتربية، ولم تكن قد قررت بعد الانخراط في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.
ولم يكن الضيف يشعر بالحرج وهو يحمل مكنسته، مع شبان المجمع الإسلامي ينظفون شوارع خان يونس، وخاصة شارع البحر الرئيس، بالإضافة إلى مشاركته خلال نشاطه الجامعي في "يوم الحصيدة"، حيث يساعدون المزارعين في حصاد مزروعاتهم المختلفة.
ولم يغب الفن عن نشاط الضيف في الفترة التي سبقت عمله العسكري، فقد أسهم في إنشاء أولى الفرق الفنية الإسلامية في خان يونس، وتدعى "العائدون" والتي كانت تقدم المسرحيات الهادفة وكذلك الأناشيد الإسلامية.
اشتهر بلقبه الحالي "أبو خالد" من خلال دوره التمثيلي في إحدى هذه المسرحيات، وهي مسرحية "المهرج"، وكان يلعب فيها دور "أبو خالد" وهي شخصية تاريخية عاشت خلال الفترة ما بين العصرين الأموي والعباسي.
وكان الضيف مسؤولا عن اللجنة الفنية خلال نشاطه في مجلس طلاب الجامعة الإسلامية التي تخرج فيها عام 1988 بعد أن حصل على درجة البكالوريوس في العلوم.
تأسيس القسام
وحين أعلن عن تأسيس "حماس" انخرط في صفوفها دون تردد فاعتقلته سلطات الاحتلال عام 1989 بعد حملة الاعتقالات الكبرى في صفوف الحركة التي اعتقل فيها أيضا الشيخ الشهيد أحمد ياسين، وقضى 16 شهرًا في سجون الاحتلال موقوفًا دون محاكمة بتهمة العمل في الجهاز العسكري لـ"حماس"، الذي أسسه الشيخ الشهيد صلاح شحادة، وكان اسمه وقتها "المجاهدون الفلسطينيون".
وأثناء سجنه كان الضيف قد اتفق مع زكريا الشوربجي وصلاح شحادة على تأسيس حركة منفصلة عن "حماس" بهدف أسر جنود الاحتلال، فكانت كتائب القسام.
بعد خروج الضيف من السجن، كانت كتائب عز الدين القسام بدأت تظهر كتشكيل عسكري، وكان الضيف من مؤسسيها وفي طليعة العاملين فيها إلى جانب الشهيد ياسر النمروطي وإبراهيم وادي وغيرهم من الرعيل الأول من قادة "القسام."
وعلى مدى عامين بقي الضيف غير معروف كناشط عسكري إلى أن وقع حادث إطلاق نار بين أحد أعضاء في حركة فتح وأحد أعضاء كتائب القسام، فغضب الضيف لذلك غضبًا شديدًا، وقام بسحب مقاتل "القسام" من المكان، صارخًا: "رصاصنا لا يوجه إلا للعدو فقط"، ومن وقتها علم الجميع أن الضيف هو أحد قادة كتائب القسام، وتوارى عن الأنظار.
الضيف وقيادة القسام
برز دوره كقيادي عسكري بعد اغتيال الشهيد عماد عقل عام 1993.
ومنذ تلك اللحظات بدأت رحلة الضيف مع المطاردة الإسرائيلية، واستطاع خلالها التغلب على واحد من أقوى أجهزة مخابرات العالم، والنجاح في الإفلات من محاولات الاعتقال والاختطاف والاغتيال، ونجح في كسر الحصار حوله وتوجيه العديد من الضربات للاحتلال ومخابراته.
واستنادًا إلى القصاصات والأخبار التي تنشرها الصحف عنه، يضم أرشيف المخابرات الإسرائيلية ملفًا مكونًا من آلاف الأوراق يتضمن كل صغيرة وكبيرة حول شكله وملامحه وصفاته، والأماكن المتوقعة لوجوده.
المخابرات الإسرائيلية تقول بأنه يتمتع بقدرة بقاء غير عادية، ووصفه الإعلام الصهيوني بأنه "ابن موت"، كما أنه يحسن انتقاء رجاله المقربين بدقة وبطريقة يصعب اختراقها.
وتشير المصادر الإسرائيلية إليه باعتباره المسؤول المباشر عن تنفيذ وتخطيط سلسلة عمليات نفذها "القسام"، أدت إلى مقتل وجرح مئات الإسرائيليين، إلا أن أخطر التهم الموجهة إليه هي إشرافه وتخطيطه لسلسلة عمليات الانتقام لاغتيال المهندس يحيى عياش التي أدت لمقتل نحو 50 إسرائيليًا بداية عام 1996 وتخطيطه كذلك لأسر وقتل الجنود الإسرائيليين الثلاثة أواسط التسعينيات، ومن بينها أسر الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان.
ووصل الأمر كما ذكرت تسريبات سابقة بأن الضيف كان جزءًا من صفقة بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني تنص على قيام السلطة باعتقاله، مقابل أن يمنحها الاحتلال سيطرة أمنية على ثلاث قرى في القدس.
ولم تكذب السلطة خبرًا، فاعتقلت الضيف ودخل السجن عام 2000، لكنه تمكن من الإفلات من سجانيه في بداية الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، واختفت آثاره منذ ذلك اليوم.
محاولات اغتيال
وبعد اغتيال صلاح شحادة وخلافة الضيف له أعد خطة تضمنت تدريب مقاتلين غير استشهاديين، وخطط لنقل المعركة لتكون داخل الأراضي المحتلة عام 48.
نجا على الأقل من ست محاولات اغتيال فاشلة بدأت مع عام 2002 حيث نجا منها بأعجوبة، بعد أن أصابت صواريخ طائرات الأباتشي السيارة التي كان داخلها، وأدى الحادث إلى استشهاد اثنين من مرافقيه، وأشارت مصادر فلسطينية وقتها إلى أن الضيف فقد إحدى عينيه.
فيما أكد مسؤول المخابرات الإسرائيلية أن الضيف نجا من هجوم في غارة إسرائيلية عام 2004 اغتيل فيه كبير مساعديه الشهيد عدنان الغول.
وفي عام 2006، قصفت طائرة إسرائيلية من طراز إف-16 منزلاً زعم الاحتلال أنه يضم اجتماعًا لقادة رفيعي المستوى من "حماس"، ونجا الضيف من الانفجار لكنه أصيب بجروح بالغة في العمود الفقري، وبعد هذا الحدث أصبح أحمد الجعبري قائدًا بالإنابة لكتائب القسام.
في عام 2014، شن الطيران الإسرائيلي غارة على منزل بحي الشيخ رضوان في مدينة غزة أسفرت عن استشهاد زوجة الضيف (وداد، 27 عامًا)، وابنه علي (7 أشهر) وابنته سارة (3 أعوام)، بالإضافة لثلاث مدنيين، ونفت "حماس" وقتها مقتل الضيف.
وفي عام 2015، أفادت وسائل إعلام إسرائيلية نقلاً عن مصادر استخباراتية أن الضيف نجا من محاولة اغتيال. وفي نفس العام وضعته واشنطن على "لوائح الإرهاب".
وأثناء العدوان على غزة عام 2021، أفادت التقارير أن الجيش الإسرائيلي حاول قتل الضيف مرتين في أسبوع واحد، لكنه هرب في اللحظة الأخيرة في المرتين.
وخلال الفترة العصيبة التي تعرضت فيها "حماس" للملاحقة من قبل أجهزة السلطة الفلسطينية ما بين عامي 1995 و2000 رفض الضيف بشدة التصدي لقوى الأمن الفلسطينية أثناء اعتقال أعضاء "القسام" وذلك حقنًا للدم الفلسطيني، حتى إنه سلم نفسه بكل هدوء لجهاز الأمن الوقائي.
في جميع المفاصل اللاحقة، بعد فوز "حماس" بالانتخابات البلدية والتشريعية عام 2006، وبدء الحصار على غزة، وأسر الجندي شاليط، والحروب التي شنها الاحتلال على غزة منذ عام 2008 وحتى الحرب الحالية، كان الضيف حاضرًا، يخطط ويقود دفة المقاومة ويتحكم مع رفاقه المجاهدين بالمسار.
كانت صورة الضيف تطل باستمرار عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، وغير مرة، أعلن الاحتلال أن أحد أهدافه الأساسية قتل كبار قادة "حماس"، وتمت تسمية الضيف، على وجه الخصوص كهدف محتمل، بل على رأس قائمة الاغتيالات الانتقائية.
يوجد للضيف 3 صور، واحدة قديمة للغاية، والثانية وهو ملثم، والثالثة صورة لظله، وحتى دولة الاحتلال التي تتباهى بأن لديها أقوى استخبارات في العالم لا تملك صورة حديثة له.
وحين توفيت والدته عام 2011 تردد حينها أن محمد لم يستطع توديع والدته لدواع أمنية ولم يحضر الجنازة أبدًا، لكن مصادر تؤكد أنه زارها متخفيًا بزي مسن في المستشفى حيث كانت تُعالج، كما حضر ثاني أيام بيت العزاء لوقت قصير دون أن يلاحظ وجوده أحد، ولا أحد يؤكد أو ينفي هذه الحادثة.
طوفان الأقصى
وعاد الضيف القائد العام لكتائب عز الدين القسام صباح السبت 7 أكتوبر ليحدد من جديد وقت ومكان المعركة، وعن بدء عملية عسكرية ضد الاحتلال باسم "طوفان الأقصى" وإطلاق آلاف الصواريخ باتجاهها.
ووجه رسالته للمقدسين وأهالي الداخل المحتل، وقال: "أهلنا في القدس اطردوا المحتلين واهدموا، الجدران ويا أهلنا في الداخل والنقب والجليل والمثلث أشعلوا الأرض لهيباً تحت أقدام المحتلين".
وكان "طوفان الأقصى" الذي وضع دولة الاحتلال تحت النار، في موقف لم تختبره منذ العبور المصري عام 1973، صواريخ تسقط على تل أبيب والقدس وباقي المدن المحتلة، ومستوطنات وكيبوتسات ومواقع إسرائيلية مسيطر عليها تمامًا من مقاتلي "القسام"، جنود الضيف.
برًا وبحرًا وجوًا، انطلق رجال المقاومة وسيطروا على مواقع إسرائيلية، وقتلوا إسرائيليين، وأخذوا آخرين إلى قطاع غزة، بأوامر الضيف الذي يثبت مرة أخرى أنه صاحب الكلمة العليا في بدء حرب أو في وقفها.
وذات يوم قال زعيم ما يسمى "المعارضة" الإسرائيلية يائير لابيد، بعد خطاب للضيف "محمد الضيف ذكر أنه ابن الموت ويحب الموت ويريده، لذلك سنصل إليه وسنقتله".
نعم قد تصل تل أبيب إلى الضيف، هذا ليس مهمًا، فقد سبق رفاق له، (وثلة من الآخرين) كما وصلت صواريخ القسام إلى كل المدن المحتلة ولم يعد ثمة مكان للصهاينة للاختباء فيه، وهذا بحد ذاته تاريخ أعاد الضيف كتابته من جديد.
وبات شعار" حط السيف قبال السيف احنا رجال محمد الضيف" من أكثر الشعارات ترديدًا في المظاهرات في فلسطين وحتى بعض الدول العربية.
وإذا كان رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو يتحكم بآلة الموت ضد الفلسطينيين، فالضيف يتحكم بزمان ومكان وتوقيت المعركة، ويكتب مع غزة الأخرى، غزة التي بنت تحت الأرض التاريخ من جديد.

