بقلم : محمود غنام

 صديق لم أره منذ عهد ما قبل المحمول.. التقيته قدرا ودون ترتيب في اعتصام رابعة العدوية (حتى أبرئ ساحتي، أؤكد أنني لم أكن معتصما لكنني كنت مقاول إرهابيين!)، تعارفنا تحت صوت النار وسارينات الإسعاف يوم المنصة، تلاقينا بعيون دامعة، ليس من الشوق، بل من قنابل الغاز، وتصافحنا بأيادٍ ملتهبة، لا من حرارة اللقاء، بل من حرارة الكاوتشات المشتعلة! وافترقنا على عجل، لأن الحفاظ على المستقبل أهم من اجترار ذكريات رائعة للماضي البعيد!


حصلت على رقم هاتفه، وتبادلنا الوعود بلقاء قريب لم يأت..

تذكرته فجأة بعد مجزرة الفض.. كان شابا دمنهوريا طيبا دمث الخلق اسمه «هلال»، عيناه تلمعان بنجابة، وشفتاه تتحركان بأدب، ووجهه ينطق بالحب.. ألحّ علي ذكره بشدة.. بحثت عن رقمه في هاتفي القديم حتى وجدته.. طلبت رقمه، فإذ به غير متاح مؤقتا..

اتصلت به في أوقات مختلفة على مدار اليوم فلم أتلقَّ ردا، فتوقعت أن مكروها أصابه.. الحقيقة أن ساعة واحدة يوم مجزرة فض رابعة تجعلك تستغرب وصف الموت بأنه «مكروه»، ووصف العودة للبيت بأنها «سلامة».. ومتابعة الأخبار على الشاشات بأنها «متابعة».. كان يوما غيَّر مفهومنا الموروث عن الحياة والموت، فالموت في عزٍّ خير من حياة على مذلة.. والعائد مخذول مكسور لا غانم ولا سالم!

لي عادة منذ «رابعة» لا أسلوها أبدا.. وهي أن أتصل على أرقام أصدقائي الغائبين لعل أحدا يخيّب ظني ويجيب.. أصبحت عبارة «الرقم الذي تحاول الاتصال به غير متاح مؤقتا» رفيقة يومي، أسمعها كل يوم عدة مرات.. مع الوقت، البعض تحولت عبارته إلى «الرقم المطلوب خارج نطاق الخدمة»، والبعض أصبح رقمه لأخيه أو زوجته.

لكن هاتف هلال أخيرا أصدر جرسا دلالة على الاتصال.. نعم جرس.. جرس بعد شهرين أو ثلاثة لا أذكر.. أخيرا، سمعت نغمة جديدة.. أخيرا، صوت غير صوت المدعوة «زينب» التي تعمل في جميع شركات الاتصالات!

وانقطع الجرس مع كلمة «السلام عليكم».. هو صوت هلال كما كان منذ خمسة عشر عاما.. كنت وقتها في مترو الأنفاق: هتفت بحماس:

- هلال.. انت حي؟

تذكر الرجل صوتي فانتقل إليه الحماس، وحياني بحرارة..

يعني انت لسه عايش صح؟!

سبحان الله!!

شعرت باستغراب من حولي، فما زال هناك من يعتقد أن الأساس هي الحياة لا الموت.. هؤلاء سمعوا ولكن ليس رأى كمن سمع.

اطمأننت على هلال وتواعدنا بزيارة قريبة لم تأت..

أول مرة أسمع فيها باسم هلال، بعدها كان عن طريق زوجة أخي المعتقل تبلغني أن شابا يرافق زوجها في الزنزانة يرسل لي السلام من السجن اسمه هلال!