التجرد في حياة الأخ المسلم

التجرد طريق النصر:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه...

وبعد؛ فإن طريقَ الدعوة واحدٌ لا يحتمل الشركة، ولذلك فإنَّ الدعواتِ لا تنجحُ ما لم يتجردْ لها المؤمنون بها التجردَ الذى يتمُّ به التخلُّص للفكرة مما سواها من المبادئ والأشخاص؛ بحيث تملك الدعوةُ عليهم عقولَهم ومشاعرَهم، فلا شيءَ يعين الداعية على المحن في طريقه الشاق مثلَ التجردِ لله والإخلاصِ له﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام)، والتجرد الكامل لمنهج الحق المستمد من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والاستمساك به، وعدم المساومة عليه ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام:153) ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الزخرف:43)، وقال صلى الله عليه وسلم: "قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ" (أحمد) وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم".

 

وقد تجرد قلب الرسول صلى الله عليه وسلم لله ولدعوته، وتجرد للبلاغ، ثم رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على التجرد لله، حتى خلت نفوسهم من حظ نفوسهم، وصار همُّهم كله أن يخلصوا العبادة لله، والعمل لنصر دينه ونشر رسالته، فلما علم الله منهم ذلك مكَّن لهم في الأرض، ونصرهم بفضله.

 

التجرد ركن من أركان بيعتنا:

قال الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله: «أريد بالتجرد: أن تتخلص لفكرتك مما سواها من المبادئ والأشخاص؛ لأنها أسمى الفِكَر وأجمعُها وأعلاها ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138) ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (الممتحنة:4)».

 

ويقول الأستاذ أبو الحسن الندوي رحمه الله في حديثه للإخوان المسلمين: "من مزايا الأنبياء والدعاة إلى الله: التجردُ للدعوة والتفرغُ لها بالقلب والقالب، والنفس والنفيس، والوقت والقوة، فمن شأنهم أنهم يركِّزون جهودَهم ومواهبَهم ويوفِّرون أوقاتِهم وقواهم لهذه الدعوة ونشرِها والجهادِ في سبيلها، ويعطونها كلَّهم ولا يَضِنُّون عليها بشيء مما عندهم، ولا يحتفظون بشيء ولا يُؤْثِرون عليها شيئا؛ لا وطناً ولا أهلاً ولا عشيرةً ولا هوىً ولا مالاً، حتى تثمر جهودهم".

 

ويقول الأخ محمد محمود الصواف- رحمه الله-: "الدعوة هي حياة الداعية تأخذ عليه لُبَّه وكلَّ مشاعره وأحاسيسه، وهي كل حاضره ومستقبله، حياتُه مرتبطةٌ بحياتها، ونصرُه معلَّقٌ بنصرها، ويجب أن تصطبغ حياتُه كلُّها بصبغتها الربانية، فإن تكلَّم ففي الدعوة، وإن عمل فللدعوة، وإن سار سارت معه، وحيث وُجدت لا تفارقه ولا يفارقها، ويتصاغر أمامها، وكل ما قدم لها من خدمات يراها صغيرة وبسيطة بالنسبة إلى ما يجب عليه من جهاد أكبر".

 

الإخوان يتربون على التجرد:

إنَّ حركتنا المباركة لفي حاجة ماسة إلى القلوب المتجردة الموصولة بالله، التي لا تنظر إلى متاع دنيوي حقير زائل، ولا تعمل من أجل الزعامة أوالقيادة أو الصدارة، أو ابتغاء الشهرة والظهور الذي يقصم الظهور، ولهذا كان من أهم ما ينشغل به الإخوان في عملية التربية: تدريبُ الأخ على تزكية نفسه بما يجعلها مُتَأَبِّيةً على الدَّنايا، ثم الترقي به ليعيش متجردًا لرسالته، مطمئنًّا ومستعدًّا للتضحية في سبيلها بكل ما يستطيع.

 

ومن ثَمَّ فالأخ الصادق مجاهد مستمر في جهاده، لا يربط انتظامه في الدعوة واجتهاده في العمل بإحراز المناصب أو التقدم في مواقع القيادة في الدعوة، بل إنه يتعفف عن طلب ذلك، ولا ينافس في شيء منه، ولا يتوقف عن العمل حين ينقل من موقع إلى آخر متقدم أو متأخر في الدعوة، بل هو جندي الدعوة في كل حال، يَخْدُمُها ولا يستخدمها.

 

وكذلك لا يجعل الأخ الصادق المواقف الشخصية مع أحد من إخوانه– كائنًا ما كان موقعه- سببًا في ترك الصف، أو الافتئات على الدعوة والإساءة إليها، أو إشاعة المفتريات وترديد الأباطيل عن الدعوة وأهلها، بل يبقى في كل حال مهتمًّا ببيان حقيقة الدعوة وإيضاح صورتها الناصعة، والذب عنها وعن قادتها، ورد الافتراءات والبهتان عنها وعنهم.

 

وميزان التجرُّد عند الأخ المسلم: قصدُ الحق، ونشدانُ الصواب، لا يُفَرِّق بين أن يظهرَ الحقُّ على يده أو على يد إخوانه، ويرى أخاه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له، ويقدم النصيحة لإخوانه بكل آدابها وضوابطها، ويظل عاملاً لدعوته، حريصًا على نجاح رسالته، متأبِّيًا على محاولات الاستدراج، واعيًا لكل محاولات شق الصف التي يجتهد فيها الخصوم.

 

أيها الإخوان المسلمون: إن ظاهرةَ التنازع والشقاق والتشرذم التي تصيب بعض العاملين في حقل الدعوة تشير إلى نقص في التجرد الحقيقي لله، حين تختلف آراؤُنا واجتهاداتُنا ورؤانا ونحن متجردون لله وللحق، فسنحتكم إلى الضوابط والثوابت التي ارتضيناها، وسيقلُّ التنازعُ والشقاقُ والتشرذم دون شك حين نكون متجردين لله، نقبل النصيحة، ونحتمل النقد، سواء كان لأشخاصنا أو لأفكارنا أو لتصرفاتنا، وحين نكون متجردين لله لا تكون ذواتنا محور اهتمامنا ولا محور تحركنا، وحين نكون متجردين لله تكون طريقة الحكم على الآخرين هي الطريقة التي أمر الله بها ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 8).

 

وحين يغيب التجرد من حياة المسلم يحل محله اتباع الهوى والإعجاب بالرأي، وذلك بداية الهلاك ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ﴾ [الصف: من الآية5] ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ (محمد: 14)، وفي الحديث: "ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِى رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ..." (أبو داود والترمذي وحسنه).

 

فاستمسكوا أيها الإخوان بدعوتكم، وامضوا في طريقكم، وتجرَّدوا لرسالتكم، وأخلصوا لله ربكم، واعملوا والله معكم. وإلى لقاء آخر مع (حديث من القلب) أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم.

 

والله أكبر ولله الحمد.

محمد مهدي عاكف

المرشد العام للإخوان المسلمين