بهذه المناسبة الجليلة، مناسبة الإسراء والمعراج, رأينا أن نعرض وجهة نظرنا بأدلَّة استقيناها من مظانِّها التي رجعنا إليها, إنه أمرٌ شغل المسلمين, واختلف فيه علماؤهم, ولسنا ندَّعي علمًا للحكم فيه بصواب فريق دون فريق, ولكننا من الفهم، في حدود الحل والحرمة, بحيث نستطيع أن نقتنع بوجهة نظر, يدعمها دليل يُرضينا ونرتاح إليه, وفي كلتا الحالتين لا نحمل أحدًا على الأخذ بما نقول؛ فلكل منهم أن يرتاح إلى ما اقتنع به.

ولما كثر الكلام في أيامنا هذه بقصد زعزعة مكانة السنة في أذهان المسلمين, والأخذ بها كمصدر صحيح سليم من مصادر التشريع, عبادةً ومعاملاتٍ, دار في خلدي أن أتحدث عن مكانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدين, ولئن كان هذا الحديث مكررًا, ولئن كانت هذه المكانة مقطوعًا بسموِّها وجلالها, فإن التذكير بها واجب؛ لأن الذكرى تنفع المؤمنين, وهمي الأول في ذلك هو ذلك الشباب الطاهر, المقبل على مصادر دينه, يستسقي منها ما يعزه في دنياه ويسعده في آخرته؛ حتى يتوافر له اليقين القوي بصحة ما جاء به رسولهم الكريم صلوات الله وسلامه عليه, قرآنًا وحديثًا, ومتى اطمأن الشباب إلى هذا أخذ بكل ما جاءه به نبيه صلى الله عليه وسلم, معرضًا عن تلك المحاولات الفاشلة التي تريد صرفه عما شرح الله صدره له, من دقة تشريع دينه وزعامة نبيه عليه الصلاة والسلام.

وبإهلال رجب الفرد قدرت أن المناسبة مواتية, فاتخذت ذلك وسيلةً للكتابة عن الإسراء والمعراج من هذه الزاوية، إني أوقن بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُسرِيَ به روحًا وجسدًا, وهذا اليقين لا يحتاج عندي إلى دليل أو برهان, ولكني قدرت أن غيري قد يحتاج إلى هذا الدليل, فجمعت له من الأدلة ما وقع تحت نظري أثناء قراءتي, وإني لأبتهل إلى الله جل وعلا أن يكون فيما أقدم خيرٌ ما ينتفع به المسلمون, فإن تم القصد فلله الحمد والمنة, وإلا فجهدٌ أردت به خيرًا, ومحاولةٌ أتضرع إلى الله أن يكتب لي بها الأجر, قدر ما انطوت عليه نيتي.

أولاً: لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط, لما كان آية, ولما كان معجزة, فكثير من الناس تطوف أرواحهم في الرؤى بعوالم ما لهم بها من عهد, وما كانت تخطر لهم على بال, والكثيرون قد اطلعوا في رؤاهم على الجنة, وأدهشهم ما هي عليه من حسن وجمال وروعة وجلال, فهل كانت هذه خصيصة يتميزون بها عن غيرهم من صالحي المؤمنين؟ وأي فرْق بينهم وبين سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام في هذا المقام, إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُسري به وعُرِجَ به روحًا دون جسد؟! أليس في حقيقة الإسراء والمعراج روحًا وجسدًا معجزةٌ يزيد تأثيرها من إيمان الشباب زيادةً تزيده تعلقًا بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ فإذا ما رسِّخ هذا المعنى عند الشباب تبيَّنت له حقيقة مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فازداد له حبًّا, وازداد لرسالته جهدًا وعملاً، مهما تكبَّد في سبيل ذلك من العقبات والصعاب.

ثانيًا: قوله تبارك وتعالى ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ ولم يقل بروحه, والقرآن كما نوقن جميعًا لا تنقصه الدقة في التعبير؛ لأنه القول الفصل؛ قول رب العالمين، فما الذي يحملنا على العدول عن الظاهر واللجوء إلى التأويل وليس هناك ما يدعو إليه؟ وهذا ما نريد أن نرسخه في أذهان الشباب المسلم, فعليه أن يتمسك بظاهر النص آيةً وحديثًا, وألا يلجأ إلى التأويل إلا إذا استحال الفهم استحالةً تدفع إلى التأويل, حسب الشروط التي وفَّق الله تعالى العلماء إلى الاتفاق عليها, وفي هذا يتجنَّب شبابنا المسلم الكثير من المزالق التي يُلجئه إليها من أوتي نصيبًا من الجدل لا خير فيه.

وإذا كان الإنسان قد استطاع بعقله المحدود أن يصل بالسرعة إلى حدٍّ مدهش, فهل تعجز قدرة الله عن ذلك؟! حاشاه!!.

ثالثًا: لو كان منامًا لصدَّقه الكفار, الذين هاجموا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولمَا كان معجزةً، ولمَا ارتدَّ بسببه بعض حديثي العهد بالإسلام من المسلمين الذين افتُتنوا بهذه المعجزة الخارجة عن نطاق العقل البشري, ولهذا ننصح شبابنا المسلم ألا يدخل في جدال بسبب المعجزات؛ لأنها أمور خارقة للعادة وليست في مقدور البشر, يؤكد هذا قوله تعالى ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾ (النجم)، فأي زوغان للبصر إذا كان الأمر منامًا؟! فليحذر شبابنا من الذين يؤوِّلون القرءان والأحاديث تأويلاً لا يقرُّه عقل ولا يؤمن بقدرة الخالق وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعًا: صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام, إذ أمَّهم ببيت المقدس, الذي وصفه للمشركين بدقة, لمَّا تحدَّوه أن يصفه لهم, وإن شبابنا إذا تشكَّك بالمعجزات اهتزَّ إيمانه بالقضية التي يدافع عنها, والإنسان لا يصدق ولا يعتمد في الذود عن قضية إلا إذا آمن بها, فكيف الحال وقضيتنا هذه قضية كفر أو إيمان؟ وأين؟ في بيت المقدس الطاهر, الذي انتَهك حرمته اليهود.

على شبابنا ألا ينسى أول قبلة صلى إليها المسلمون, عليه أن يجعلها حيَّةً في خاطره, في مشاعره, في تفكيره, وأن يعد نفسه لليوم الذي يستعيد فيه قدسه الشريف, مهما غلا الثمن.

خامسًا: مجيء جبريل عليه السلام بالبراق ليركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلو كان الأمر رؤيا لحلَّق الرسول صلى الله عليه وسلم في السموات العلا دون براق ولا غير براق, كما يحدث لمن يرى في منامه أنه يحلِّق في الفضاء بغير مركب ولا أداة، وما وصل إليه العلم يقرِّب فعلاً إلى الأذهان صدْقَ تلك المعجزة، رغم أننا في غير حاجة على صدقها، بعد ما تحدث عنها الرسول عليه الصلاة والسلام في دقة إحاطة لا تتوافر في الرؤى أبدًا؛ لأن الذي يقص رؤيا رآها لا بد أن يغيب عنه بعض أحداثها, أما هذه المعجزة فقد رويت بدقة وإحاطة وشمول لا يتوافر أبدًا في قص أية رؤيا من الرؤى.

سادسًا: في أحاديث الإسراء والمعراج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يستفتح عند كل سماء كان يسأل فيجيب في كل مرة, أو الملك الذي كان معه: "محمد" فيفتح له، وظلت هذه الأسئلة تتكرر كل مرة على باب كل سماء من السموات السبع، فهل يمكن أن تكون هذه الحركات من استفتاح وفتح وأسئلة وأجوبة في رؤيا حالم أو حالة راءٍ.

إن الحالم أو الرائي يكون في هذه الحالة شديد الحساسية, توقظه أية حركة؛ لأنه يكون حينئذ بين اليقظة والنوم, فممَّا لا يمكن أن يستسيغه العقل بسهولة أن يتم كل هذا في الرؤيا, وإذن فهي اليقظة والمعجزة التي تمت بالروح والجسد, والتي نطلب من الشباب أن يرتاح إليها قلبيًّا, وأن يكون شديد الوثوق في قدرة العلي الكبير على فعل المعجزات التي لا يمكن أن تستوعبها تقديرات العقول البشرية المخلوقة، وفي هذا ما ينمِّي في صدره الأمل الكبير في نصر الله, مهما ران على تقدير العقل من الشكوك؛ نظرًا للفارق المادي بين قوة المسلمين وبين قوة أعدائهم, فالله- ولا شك، وبدون تردد- على كل شيء قدير.

سابعًا: نفس الوضع في التقائه بنبي بعد نبي في كل سماء من السموات السبع, وما دار بينهم وبينه صلوات الله عليهم جميعًا وسلامه, في كل سماء, وتردُّده صلى الله عليه وسلم بين موسى عليه السلام وبين ربه سبحانه وتعالى؛ بشأن الصلوات التي انتهت إلى خمس في العدد وخمسين في الأجر, هل يمكن أن يتم كل هذا في رؤيا قد تستغرق بعض ثوانٍ؟!

ثامنًا: أخذ جبريل عليه السلام بيده صلى الله عليه وسلم, فعرج به إلى السماء حتى وصلا إلى مستوى سمعا فيه صرير الأقلام، ووقف جبريل عليه السلام، ولم يتجاوز ذلك المقام، وطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتقدم فلم يستطع، فلكل منهم مقام معلوم، هذه الروعة كلها لا تكون رؤيا.

إن هذا الحديث الرائع الفريد لا يمكن أن يكون رؤيا يا شباب العصر.. ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)﴾ (الأعراف).. آمنوا بهذه المعجزة الفذة، وأيقنوا بها، واحذروا أن يشكِّككم الملحدون في آيات الله البينات, وكونوا عند إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ ساعة إذ لم يتشكَّك عندما بلغه الخبر، فكان الصاحب الوفي الواثق، فقال: "إن كان قال فقد صدق".

تاسعًا: إن الوصول إلى سدرة المنتهى, التي ينتهي إليها ما ينزل من عند الله, وينتهي عندها ما يصل مما دونها لن يكون رؤيا؛ لأنها المقام الذي لا ترقى إليه عقول البشر التي لم تؤتَ من العلم إلا قليلاً.

عاشرًا: لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين ما قاله عن أحداث تلك المعجزة الخارقة إنه دخل الجنة ورآها، ورأى كل ما فيها رأي العين العادية التي نعرفها في الخلق, العين التي ترى حسيًّا ولن تكون إلا ليقظ لا لحالم.

حادي عشر: حديث روته أم هانئ رضي الله عنها: "لقد صليت معكم العشاء الآخرة, كما رأيت بهذا الوادي, ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه, ثم صليت الغداة معكم الآن"، فهل صلى العشاء الآخرة وصلى الغداة في الرؤيا كذلك؟!

ثاني عشر: وإذا كان إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن, وإذا كان موسى عليه السلام كليم الديان, فكيف لا نصدق أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد كلم الله تعالى كفاحًا؟ إنه صلى الله عليه وسلم في وصفه ربه لم يشبِّه ولم يجسِّم ولم يعطِّل, ولكنه قال الصدق الذي يليق بالصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام, والحق الذي يليق بجلال ذي الجلال والإكرام, قال: "نور أنَّى أراه؟!".