لست أعلم قضية امتزجت فيها الدوافع الدينية بالعوامل الوطنية مثل قضية فلسطين، فهي قضية وطن ودين ففلسطين هي القبلة الأولى، ومقر المسجد الأقصي الذي بارك الله حوله، وسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى الملأ الأعلى، إلى سدرة المنتهى حيث رأى من آيات ربه الكبرى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الإسراء]، فهي إذن بقعة مقدسة مباركة لها في نفس كل مسلم وفي قلب كل مؤمن أسمى منزلة وأعلا مكانة يفتديها بدمه وماله وروحه وحياته.
وفلسطين بلد عربي يقع في قلب أرض العروبة انحدر أهله من سلالة المجاهدين الأولين والصحابة الفاتحين فهي قطعة من صميم أرضنا ولب أوطاننا لا يفرط عربي في شبر منها ولا يتخلى عنها أبدًا فهي الأرض التي سقاها أجداده بدمائهم وهو إما أن يعيش فيها عزيزا كريما أو يموت في ميدان الدفاع عنها شجاعا شريفا.
وفلسطين بعد ذلك هي خط الدفاع الأول للعروبة والإسلام فإذا انهارت وغزاها اليهود أصبحت البلاد العربية جميعا مهددة في كيانها السياسي والاجتماعي والاقتصادي فلا شك أن فلسطين هي الجسر أو نقطة الارتكاز، إن ثبت اليهود فيها أقدامهم وثبوا منها على سائر البلاد العربية وإن مطامع الصهيونيين لبعيدة المدى.
فلا عجب إذن إذا أصبحت قضية فلسطين قضية وطن ودين، وقضية كل عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها.
وتجتاز القضية اليوم أدق مراحلها وأحرج ساعاتها وقد انتهزت الهيئة العربية العليا فرصة قدوم ذكرى معجزة الإسراء والمعراج التي يخفق لها قلب كل عربي وتهتز لها مشاعر كل مسلم فوجهت نداء وبيانا إلى الأمة العربية الكريمة في فلسطين استهلته بقولها: "في هذا الظرف الخطير الذي تكالبت فيه قوى الاستعمار الصهيونية على وطننا العزيز المقدس، وأمتنا الكريمة الفاضلة، وفي هذه الساعات التاريخية التي يقف فيها الشعب العربي وقفة العزة والكرامة للمحافظة على سلامة قضية بلاده، ترى الهيئة أن تعلن الشعب الكريم بأن عدم الاتصال المطلق هو الموقف الذي يجدر به أن يقفه من لجنة التحقيق الدولية، وبعد أن ذكرت الهيئة الأسباب أضافت "ولقد دلت الأبحاث والمناقشات التي دارت في هيئة الأمم المتحدة على أن جميع الاختصاصات التي منحتها الهيئة المذكورة للجنة التحقيق إنما جاءت وفقا لمطالب الوكالة اليهودية والمصالح الاستعمارية؟
ومما لا ريب فيه أن قضية فلسطين لم تعد بحاجة إلى أي تحقيق أو بحث وأن الدعوة إلى تحقيق جديد تنطوي على مراوغات ومطاولات يقصد منها التسويف في حل القضية حلا عادلا، والسعي لإضاعة حقوق العرب، لأن كل تسويف ومطاولة مع استمرار الهجرة اليهودية وعدم منع انتقال الأرض العربية لليهود، يمهد إلى جعل اليهود أكثرية والعرب أقلية، ثم إن كل المعلومات المتوفرة تدل على أن اتجاه لجنة التحقيق يسير نحو استمرار الهجرة وتقسيم فلسطين وهذا لا يمكن لعربي في فلسطين ولا في العالم أن يقره.
وبعد فإن حقوق الشعب العربي الفلسطيني في الحرية والاستقلال هي حقوق طبيعية مشروعة ثابتة، وإن العرب هم أصحاب البلاد الشرعيون وسكانها الأصليون وهم لا يقبلون مطلقا أن يكون مصير بلادهم وحقوقهم فيها موضع تحقيق أو تحكيم أو مساومة.
وبعد أن انتهت الهيئة العربية العليا من دعوة الأمة العربية الفلسطينية الكريمة دعوة شاملة للهيئات والأفراد والصحافة إلى مقاطعة لجنة التحقيق ضمانا لحقوق البلاد وصونا لكرامتها، أهابت بالأمة إظهارا لاحتجاجها على ما يبيت لها ويحاك ضدها من مؤامرات، وإعلانا لتمسك البلاد بمطلبها، وهو إلغاء الانتداب وإعلان الاستقلال فورا وإقامة دولة عربية مستقلة أن تضرب إضرابا عاما طوال يوم الاثنين الموافق 27من رجب سنة 1366 وهي واثقة من أن الأمة الكريمة ستظهر في هذا الموقف بالمظهر القوي الرائع.
هذا هو نداء الهيئة العربية العليا إلى الأمة الفلسطينية الكريمة ولا شك أن نداء إلى كل أمة عربية إسلامية وإذا كان اليهود يحتفلون في كل عام حيثما وجدوا بيوم 2نوفمبر وهو اليوم الذي صدر فيه وعد بلفور المشئوم فأولى بالعرب والمسلمين أن يجعلوا من ذكرى الإسراء والمعراج في يوم 27 رجب "يوم فلسطين" وأن يظهروا شعورهم ويعبروا عن تضامنهم مع إخوانهم عرب فلسطين في ذلك اليوم حتى يظهروا أمام العالم أجمع صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ويعلن عن عزم العرب الأكيد على احتفاظهم بفلسطين عربية مستقلة لا يدخرون في سبيل ذلك بذل المال عن سخاء ولا التضحية بالأرواح تضحية الشهداء والله أكبر ولله الحمد.
المصدر : جريدة الإخوان المسلمون – 25رجب 1366هـ / 14 يونيو 1947م.
المصدر : إخوان ويكي