المصدر : إخوان ويكي
مقدمة
احتلت العلاقات بين الشعوب والصلات بين الامم في نظم الإسلام المكانة اللائقة باعتباره الدين الخاتم والرسالة السماوية التي ارتضاها رب الناس سبحانه وتعالى للعالمين كافة..
وقد أدركت جماعة الإخوان المسلمين من خلال ما قامت عليه من فهم شامل للإسلام أهمية هذه الحقيقة الخالدة وهذا الركن الحيوي من أركان الفهم الصحبح للإسلام فنصت عليه مبكرا في كتابات مؤسسها الأول الإمام الشهيد حسن البنا ـ
حيث قال رضي الله عنه: " إن نظم الإسلام فيما يتعلق بالفرد أو الأسرة أو الأمة حكومتها وشعبها، أو صلة الأمم بعضها ببعض، نظم الإسلام في ذلك كله قد جمعت بين الاستيعاب والدقة وإيثار المصلحة وإيضاحها، وإنها أكمل وأنفع ما عرف الناس من النظم قديما أو حديثا. هذا حكم يؤيده التاريخ ويثبته البحث الدقيق في كل مظاهر حياة الأمة.
ولقد كان هذا الحكم يشهد به كل منصف، وكلما تغلغل الباحثون في بحوثهم كشفوا من نواحي الجمال في هذه النظم الخالدة ما لم يكن قد خطر ببال سلفهم، وصدق الله القائل:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53).
رسالة نحو النور
ومن هنا حرص الإمام الشهيد على التأكيد في البناء الفكري للجماعة على المعالم الرئيسية المحددة لفهم أبنائها في هذا الخصوص. فالإخوان المسلمون يعتبرون الناس في حكم دعوتهم ( إخوة) : أصلهم واحد، وأبوهم واحد، ونسبهم واحد، لا يتفاضلون إلا بالتقوى وبما يقدم أحدهم للمجموع من خير سابغ وفضل شامل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1).
فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان، ولكن ندعو إلى الأخوة العادلة بين بنى الإنسان.
كما أنهم يعدون ما عدا ذاك من مقاييس تفاضل تقوم على عنصرية بغيضة أو تمايز مصطنع بين يني البشر " مزاعم باطلة " و"نزوات من غرور الإنسان وطيش الوجدان لا يمكن أن تستقر علي أساسها نهضات أو تقوم على قاعدتها مدنيات، وما دام في الناس من يشعر بمثل هذا الشعور لأخيه الإنسان فلا أمن ولا سلام ولا اطمئنان حتى يعود الناس إلى علم الأخوة فيرفعونه خفاقاً، ويستظلون بظله الوارف الأمين، ولن يجدوا طريقاً معبدة إلى ذلك كطريق الإسلام الذي يقول كتابه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13).
ويقول نبيه صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصيبة، وليس منا من مات علي عصيبة) رواه أحمد من حديث جبير بن مطعم.
ولهذا كانت دعوة الإخوان المسلمين ربانية إنسانية ".
رسالة " دعوتنا في طور جديد "
ولعله من يمن الله على هذه الدعوة المباركة، ومن بصيرة إمامنا الشهيد، أن وفقه الله سبحانه وتعالى للحديث عما أسماه رضي الله عنه " العالمية " منذ أكثر من خمسين عاما..
وهي القضية التي اضحت تشغل عالم اليوم تحت مسيات شتى من " عولمة - قرية كونية واحدة... "
حيث قال رحمه الله " :
أما العالمية: أو الإنسانية فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمي وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح.
والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة فهذا التجمع في الأمم، والتكتل في الأجناس والشعوب، وتداخل الضعفاء بعضهم في بعض ليكتسبوا بهذا التداخل قوة، وانضمام المتفرقين ليجدوا في هذا الانضمام أنس الوحدة، كل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية التي آمن بها الناس من قبل، وكان لا بد أن يؤمنوا هذا الإيمان لتتجمع الخلايا الأصلية، ثم كان لا بد أن يتخلوا عنها لتتألف المجموعات الكبيرة، ولتحقق بهذا التآلف الوحدة الأخيرة.
وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلا بد أن تكون، وحسبنا أن نتخذ منها هدفاً، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً، وأن نقيم هذا البناء الإنساني لبناته، وليس علينا أن يتمالبناء، فلكل أجل كتاب ".
رسالة " دعوتنا في طور جديد "
ولم تقف الجماعة عند حد تقرير هذه المبادئ العامة الجامعة فقط بل فصلت في مواضع كثيرة وعبر سنين طويلة موقفها الواضح والصريح من كثير من القضايا التي تتصل بهذه المبادي الجامعة وتلك الأسس الكلية.
موقف الإسلام من الأقليات والأجانب
فحول " موقف الإسلام من الأقليات والأجانب يقول الإمام البنا:
" يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساساً لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك تماماً، فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الذي لا يحتمل لبساً ولا غموضاً في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)...
فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم ".
ولم يقف فهم الجماعة كما حدده الإمام البنا عند هذا الحد، بل امتد ليشمل تقديس الوحدة الإنسانية.
وفي هذا يقول الإمام البنا رحمه الله:
" إن الإسلام الذي قدّس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات:13).
ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعا في قوله: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (البقرة:136-138).
ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان فقال تبارك وتعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10).
هذا الإسلام الذي بني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببا في تمزيق وحدة متصلة، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط.
وقد حدد الإسلام تحديدا دقيقا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم فقال تعالى بعد الآية السابقة:(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9).
موقف الجماعة من الأجانب عموما
أما موقف الجماعة من الأجانب عموما فقد بينه الإمام البنا بقوله:
" وموقفنا من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا، فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) (آل عمران:118-119).
وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحي جميعا أدق العلاج وأنجحه وأصفاه.
( رسالة " نحو النور ")
موقف الإسلام من العلاقة مع الغرب خصوصا
وحول موقف الإسلام من العلاقة مع الغرب خصوصا، كان فهم الجماعة الذي حدده الإمام الشهيد:
"قد يظن الناس كذلك أن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر، وهو أيضاً ظن عريق في الوهم، فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون فهي لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أم غيره، وإن كانت صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها، مادام لا يمس حقوق الآخرين فعلى ساسة هذه الدول جميعاً:
أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها.
فالإسلام الذي يقول في المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الاسراء:34)، ويقول: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4)، ويقول: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة:7)،
ويقول في إكرام اللاجئين وحسن جوار المستجير: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6)، وهذا بالمشركين فكيف بالكتابيين؟
فالإسلام الذي يضع هذه القواعد ويسلك بأتباعه هذه الأساليب: يجب أن يعتبره الغربيون ضمانة أخرى، تضمن لهم.
نقول إنه من خير أوروبا نفسها أن تسودها هذه النظريات السديدة في معاملات دولها بعضها لبعض، فذلك خير لهم وأبقى ". رسالة " نحو النور "
وفي خضم الحرب العالمية الثانية، حيث ادعى كل طرف فى هذه الحرب المأساوية أن له رؤاه وتصوره للحياة على هذه الأرض التي يسعى لتحقيقها بخوضه لغمار هذه المأساة البشرية..
كان لجماعة الإخوان المسلمين رؤيتها الخاصة وتصورها المحدد تجاه ما يجري، لاعتبارها حاملة قارورة الشفاء لآلام الإنسانية المعذبة، والذى حدده الإمام الشهيدحسن البنا فى رسالة المؤتمر السادس ( يناير 1941 )..
- تقول رسالة المؤتمر السادس:
" لقد ردد الساسة جميعا كلمة " النظام الجديد "... فهتلر يريد أن يتقدم للناس بنظام جديد، وتشرشل يقول إن إنجلترا المنتصرة ستحمل الناس على نظام جديد، وروزفلت يتنبأ ويشيد بهذا النظام الجديد، والجميع يشيرون الى أن هذا النظام الجديد سينظم أوروبا ويعيد اليها الأمن والطمأنينة والسلام، فأين حظ الشرق والمسلمين من هذا النظام المنشود ؟
نريد هنا أن نلفت أنظار الساسة الغربيين الى أن الفكرة الاستعمارية إن كانت قد أفلست فى الماضى مرة، فهى فى المستقبل أشد فشلاً لا محالة، وقد تنبهت المشاعر وتيقظت حواس الشعوب، وان سياسة القهر والضغط والجبروت لم تات فى الماضى إلا بعكس المقصود منه، وقد عجزت عن قيادة القلوب والشعوب، وهى فى المستقبل أشد عجزاً.
وأن سياسة الخداع والدهاء والمرونة السياسية إن هدأ بها الجو حينا فلا تلبث أن تهب العاصفة قوية عنيفة. وقد تكشفت هذه السياسة عن كثير من الأخطاء والمشكلات والمنازعات، وهى فى المستقبل أضعف من أن توصل الى المقصود.
وإذن فلا بد من سياسة جديدة، وهى سياسة التعاون والتحالف الصادق البرىء، المبنى على التآخى والتقدير، وتبادل المنافع والمصالح المادية والأدبية بين أفراد الأسرة الإنسانية فى الشرق والغرب، لابين دول أوروبا فقط، وبهذه السياسة وحدها يستقر النظام الجديد وينتشر فى ظله الأمن والسلام.
ان حكم الجبروت والقهر قد فات، ولن تستطيع أوروبا بعد اليوم أن تحكم الشرق بالحديد والنار.
وأن هذه النظريات السياسية البالية لن تتفق مع تطور الحوادث ورقى الشعوب ونهضة الأمم الإسلامية، ولا مع المبادىء والمشاعر التى ستطلع بها هذه الحرب الضروس على الناس.
ولسنا وحدنا الذين نقول هذا، بل هم الساسة الأوروبيون أنفسهم، ونحن نضع هذه النظريات أمام أعين الساسة البريطانيين والساسة الفرنسيين وغيرهم من ساسة الدول الاستعمارية، على أنها نصائح تنفعهم أكثر مما هى مطالب تنفعنا، فليأخذوا أو ليدعوا، وقد وطَنًا أنفسنا على ان نعيش أحراراً عظماء أو نموت أطهاراً كرماء.
ونحن لا نطمع فى حق سوانا، ولا يستطيع أحد أن ينكر علينا حقنا.
وان خيراً لكل أمة أن تعيش متعاونة مع غيرها، من أن تعيش متنافسة مع سواها حينا من الدهر، يندلع بعده لهيب الثورة فى البلاد المغصوبة، وجحيم الحرب بين الدول المتنافسة ".
رسالة المؤتمر السادس
وبعد أن وضعت هذه الحرب المأساوية أوزارها، وقبل أن تبرد نيرانها التي اكتوت بها البشرية عامة والشعوب الأوروبية خاصة، خاطب الإمام الشهيد في إبريل من عام 1945 المؤتمر العالمي الذي انعقد في واشنطن وسان فرنسيسكو وضم الفحول من أقطاب الأمم وزعماء العالم للبحث في شئون أمم العالم المختلفة بمقال تحت عنوان " الإسلام شريعة الحضارة الإنسانية "، قال فيه:
"... إن عدة آلاف من من زعماء الشعوب والدول قد احتشدت في هذه البقاع الآن تفكر في مستقبل الإنسانية وتتلمس سبل السلام والهداية والخير والطمأنينه للناس.
.. هذه فرصة لنا نحن العرب، ونحن المصريين لنقول للعالم: هاؤم أقرءوا كتابيه.. إننا لسنا كما يظن الناس همجا ولا متأخرين، ولكنا منذ القديم وقبل أن تتفتح عين أوروبا على النور، أو تكتشف أمريكا في العالم المتمدين المعروف.. كنا نتعامل بشريعة سامية المبادئ عالية المقاصد خصبة فصيحة تماشي العصور والأجيال وتسد حاجة من شاء من الأمم والشعوب.
.. هذه فرصة لنا وللعالم، نريد أن نقول فيها للناس عامة وللمؤتمربن خاصة بملء أفواهنا.. إنكم تنشدون السلام وقد اجتمعتم هنا للناس، وهذه الأمم كلها ترقب على أيديكم الطمأنينه والسلام.
ونحن العرب، ونحن المسلمين ونحن الشرقيين قد ورثنا السلام في فلسفاتنا وفي أدياننا وفي كتنبا وفي تاريخنا الطويل العريض الزاهي المشرق، حتى صار قطعة من أرواحنا ومعنى من معاني وجودنا وكياننا فقرآننا هدى ورجمة ونور وشفاء يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ".. وإنجيلنا يعلن في الناس ´المسرة وعلى الأرض السلام..
وليس في الدنيا كلها دين ولا نظام اجتماعي جعل السلام تدريبا عمليا يطبع به أنصاره ومعتنقيه كما جعل ذلك الإسلام في شريعته " الحج " وهي شريعة السلام.. فمنذ يحرم الحاج فقد صار سلاما لنفسه، فلا يقص ظفرا ولا يحلق شعرال.. وصار سلاما لغيره من بني الإنسان فلا يجادل أحدا ولا يعلن حربا ولا يثأر من خصم حتى ولو لقي قاتل أبيه لما استطاع أن يبسط له بالقول لسانا ولا بالأذى يدا " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ".. بل إنه ليكون سلاما لغيره من من الحيوان والنبات فلا يصطاد حيوانا ولا يعلم طائرا ولا يعضد شجرا ولا يقطع نباتا.
وهكذا يظل الحاج في هذا الميدان منالسلام حتى يتحلل.. فهل في الدنيا شريعة فرضت على أبنائها السلام كما فرضه على الحاج، الإسلام ؟.
نريد أن نقول للناس في هذه الفرصة، ونصيح في أذن الدول القوية والشعوب القادرة المتحكمة.. هذه عناوين حياتنا... سلام في سلام، فمم تخافون !!؟.
لا تقفوا في طريق حريتنا ولا تحولوا بيننا وبين أن نستكمل قوتنا ولا تتهيبوا العدوان في وحدتنا بل ساعدونا على ذلك واعينونا عليه، وسترون من هذه النفوس التي طبعت بالسلام سدا منيعا يقف دون المبادئ الهدامة والأفكار المدمرة والثورات المخربة والمطامع الفاسدة، ويشيع في الدنيا كلها معنى الطمأنينة الحقة والسلام الدائم الصحيح.
نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم.. إنكم تريدون أن تعلنوا فكرة الإخاء والمساواة، وهذه من مواريثنا وذخائر كنوزنا نحن المسلمين.. فإنما جاء ديننا ليقضي على نعرة الأجناس والألوان، ويعلن المساواة بين بني الإنسانية " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ".
.. نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم إنكم اجتمعتم هنا لتقروا فكرة العدل لتكون دعامة السلام ومبدأ العقوبة لمن أبي إلا سبيل الإجرام، وهذا بعض ما يحفظه صبياننا في المكاتب ويدرسه علماؤنا في المساجد، ونعلنه في مجتمعاتنا في الصباح وفي المساء، لأن القرآن يقول:
في العدل المقرون بالرحمة " إن الله يأمر بالعدل والإحسان ".
وفي العدل في الحكم " وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل ".
وفي العدل مع الخصوم " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى ".
وفي العدل مع الأقارب والأصدقاء " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا "
ثم يقول في حماية العدل بالقوة حين لا يجدي إلا العقاب " فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، فإن فاءت فاصلحوا بينهم بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ".
... نريد أن نقول كل هذا، وأن نؤدي بهذا القول واجبنا نحو أنفسنا وميراثنا وديننا ووطننا، ونحو العالم كله.. فنحن مطالبون ولا شك بأن نضع لبنة في هذا البناءالإنساني الجديد، والعجيب أن عندنا نحن أفضل اللبنات.. بل إننا لنستطيع أن نقيم على دعائم حضارتنا، للناس لو أرادوا، بناء على أمتن القواعد وأحدث النظم والمبتكرات وصدق الله العظيم: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم ".
فإلى الذين يستطيعون القول ويكون لقولهم أثره وخطره، وإلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنة.. نتقدم بهذه الكلمات.
وإذا كان العالم يجتاز هذه الأيام مرحلة غير مسبوقة في تاريخه، تتمثل في السرعة الكبيرة التي تحدث بها التغيرات الكبرى في الأفكار والنظم والقيم، وفي موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، والمسلمون وهم جزء من هذا العالم لا يقفون بعيدا عن ذلك كله ... ولا يملكون أن يديروا أمورهم كما لو كانوا أصحاب جزيرة نائية يستطيع أصحابها أن يعفوا أنفسهم من تبعات هذه المرحلة التاريخية ومن مخاطرها وتحدياتها. وإن من أخطر الظواهر التي صاحبت، ولا تزال تصاحب هذه المرحلة التاريخية عند ملتقى مسارات الإنسانية المختلفة، اختلاط المفاهيم، وتشابك الخيوط والخطوط، وذيوع الانطباعات الخاطئة عن الآخرين، وكلها أمور لعب الإعلام العالمي في خلقها وتزكيتها دوراً بالغ الخطورة، جسيم الضرر.
وقد أصاب المسلمين من ذلك كله سهام طائشة مسمومة صورتهم كما لو كانوا شعوبا بدائية همجية مجردة من الحس الإنساني، والوعي العقلي، والتجربة العملية لسنة التطور والتقدم، منكرة لحقوق الآخرين في الحياة وفي الحرية وفي اختلاف الرأي وتباين النظر .. حتى أوشكت الدنيا أن تسئ الظن بكل ما هو إسلامي وكل من هو مسلم.
ومن الأمانة أن نعترف -جميعا- بأن جزءا من المسئولية من هذا الخلط الظالم يقع على عاتق المسلمين لما يقدمه بعضنا من أفكار ورؤى، وما يمارسونه من مواقف عملية تشهد لهذا الظن السيئ وتفتح أبواب التوجس المشروع وغير المشروع وتنسب إلى الإسلام - وسط ذلك كله - أمورا لا أصل لها فيه، ولا شاهد لها من مبادئه وقواعده ونصوصه، فضلا عن قيمه العليا ومقاصده الكبرى.
وإذا كان الإخوان المسلمون قد رأوا أن من حق الناس عليهم وحقهم علي أنفسهم أن يعلنوا - بنبرة عالية وصوت جهير وحسم لا تردد فيه - عن موقفهم الواضح من عدد من القضايا الكبرى التي هي موضع الحوار القائم بين أصحاب الحضارات المختلفة ... فإن استمرار محاولات التشكيك وسوء الظن المتعمد، واختلاق الأقاويل والأراجيف، إضراراً بالتيار الحضاري الإسلامي في عمومه، ورداً على من يحاربونه ويحرصون على إزاحته من الطريق، يجعلنا نعود من جديد لنعلن في وضوح كامل موقفنا من:
قضية الموقف العام من الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين
وهنا نبادر فنقول: إن موقفنا من هذه القضايا ومن غيرها ليس مجرد موقف انتقالي واختياري قائم على الاستحسان، وإنما هو موقف منتسب إلى الإسلام ملتزم بمبادئه صادر عن مصادره ... وعلى رأسها كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة الثابتة عن نبيه صلى الله عليه وسلم، والإخوان المسلمون يرون الناس جميعا حملة خير، مؤهلين لحمل الأمانة والاستقامة علي طريق الحق، وهم لا يشغلون أنفسهم بتكفير أحد إنما يقبلون من الناس ظواهرهم وعلانيتهم ولا يقولون بتكفير مسلم مهما أوغل في المعصية، فالقلوب بين يدي الرحمن، وهو الذي يؤتي النفوس تقواها، ويحاسبها على مسعاها. ونحن الإخوان نقول دائما أننا دعاة ولسنا قضاة، ولذا لا نفكر ساعة من زمان في إكراه أحد على غير معتقده أو ما يدين به، ونحن نتلوا قوله تعالى: (لا إكراه في الدين).
وقد أعاد الإخوان التأكيد على موقفهم الثابت من إخوانهم المواطنين المسيحين في العالم العربي:
" وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي موقف واضح وقديم ومعروف... لهم مالنا وعليهم ماعلينا، وهم شركاء في الوطن، وأخوة في الكفاح الوطني الطويل، لهم كل حقوق المواطن، المادي منها والمعنوي، المدني منها والسياسي، والبر يهم والتعاون معهمعلي الخير فرائض إسلامية لا يملك المسلم أن يستخف بها أو يتهاون في أخذ نفسه بأحكامها، ومن قال غير ذلك أو فعل غير ذلك فنحن برءاء منه ومما يقول ويفعل...
مفهوم الجماعة للمواطنة
أما مفهوم الجماعة للمواطنة فقد حددته بالدقة التي لا تسمح بالمزايدة عليه، حيث قالت:
"يري الإخوان ان المواطنة أو الجنسية التي تمنحها الدولة لرعاياها قد حلت محل مفهوم ( أهل الذمة )، وأن هذه المواطنة أساسها المشاركة الكاملة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات، مع بقاء مسألة الاحوال الشخصية من " زواج وطلاق ومواريث..." طبقا لعقيدة كل مواطن.
وبمقتضي هذه المواطنة وحتي لا يحرم المجتمع من قدرات وكفاءات أفراده - يري الإخوان ان للنصاري حق في أن يتولوا - باستثناء منصب وئيس الدولة - كافة المناصب الاخري من مستشارين ومدراء ووزراء.
ويمثل النصاري مع المسلمين في مصر نسيجا اجتماعيا وثقافيا وحضاريا واحدا تداخلت خيوطه وتآلفت الوانه وتماسكت عناصره".