بقلم :  الشيخ /ابراهيم مصطفى 

وهي صفة الكمال، فماذا تعني صفة الكمال؟

تعني أن الشخص الذي نتأسى به لا بد أن يكون تصرفه في الصغيرة والكبيرة هو الكمال المطلق، ولا يوجد هذا على الكمال والتمام إلا في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولذلك فإنه حين تقدم إلى الناس بدعوته؛ قدَّم لهم نفسه قبل أن يعرض عليهم مبادئ رسالته، وكان أسبقُ الناس إلى الإيمان به أكثرَهم معرفةً به، وقرباً منه، وخبرةً بحاله.

ولفرْط ثقته صلى الله عليه وسلم بنفسه فإنه أذن -بل أمر- كلَّ مَن رأى أو سمع منه شيئاً أن يبلغه للناس، سواءٌ ما صدر عنه في بيته، أو في مسجده، أو في حربه وجهاده، أو في قعر حجراته، وسواءٌ كان من خصوصياته أوْ لا، وسواءٌ كان في حالة ظَفَرٍ وانتصارٍ وقوةٍ، أو في حالة إخفاقٍ وابتلاءٍ وضعفٍ، دون أن يخشى قالةَ السوء عنه؛ لأنه أبعد الناس عن السوء، ليس في حياته ما يُعاب أبداً، لا سراً ولا جهراً.. شخص إذا أردت أن تقول للناس : أنفقوا وتأسَّوْا به في الكرم؛ ستجد في سيرته من القصص الصحيحة ما يؤكد لك أنه لم يسبقه في هذا أحدٌ على الإطلاق. 

غيره صلى الله عليه وسلم جادوا بما في أيديهم، لكن النبي ^صلى الله عليه وسلم جاد بما ليس في يده.. بما لم يكن يملكه بعد!!

فعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا عِنْدِي شَيْءٌ وَلَكِنْ ابْتَعْ عَلَيَّ (اشتر على حسابي)، فَإِذَا جَاءَنِي شَيْءٌ قَضَيْتُهُ» فقال عمر: يا رسول الله، قد أعطيتَه فما كلَّفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولَ عمر، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله، أنفقْ ولا تخفْ من ذي العرش إقلالا، فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعُرف في وجهه البِشْرُ لقول الأنصاري، ثم قال: «بِهَذَا أُمِرْتُ»( ).

كان له خمس المغانم، }وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ…{ (الأنفال:41)، فالخمس يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شاء، ومع ذلك كان يُنفقه كله، ويبيت الليلة والليلتين والثلاث، وليس في بيته طعام، والشهر والشهرين، ثلاثة أهلة، ولا يُوقَد في بيته نار.

فعندما نتحدث عن كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لن نجد مثله أحداً.

وعندما نتكلم مثلا عن عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمهما قيل عن الناس المشهورين بالعفو كالأحنف بن قيس مثلا: إنه رجل شديد الصبر.. شديد الأناة، وحكوا عنه ما حكوا.. فإننا عندما نتحدث عن عفو رسول ا لله صلى الله عليه وسلم؛ سنجد أنه فوق كل ما يتصور الناس، فقد آذاه الناس وعذبوه وطردوه وأخرجوه من بلده، ولما رجع فاتحا مظفرا، ووقفوا جميعا بين يديه، قال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: «فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ». ( ) 
صلى الله عليك يا رسول الله.. عفو لا يدانيه فيه أحد.
مهما كان الذي أساء إليه، كان صلوات الله وسلامه عليه واسع العفو، حتى المرة التي ضاقت فيها صدورُ أصحابه؛ حين رأوْا كبد حمزة وجسمه قد مُزّق ومُثّل به وبغيره، وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ-أي لنزيدن- عَلَيْهِمْ. قَالَ أُبَيّ بن كَعبٍ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: }وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ{ (النحل: 126)، فماذا فعل الحبيب صلى الله عليه وسلم؟ رضي بالصبر، وقال: «كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً»، وقال: «نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ» ( )، وجاءه بعد ذلك قاتلُ حمزة وأسلم، وقبل إسلامه!! فهل رأيت مثل هذا العفو.
وها هو صلى الله عليه وسلم وقد رجع مِنْ بَدْرٍ مُنْتَصِراً، وَقَدْ قَتَلَ الله تَعَالَى مِنْ قُرَيْش مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، أَقْبَلَ عُمَيْرُ بن وَهْبٍ حَتَّى جَاءَ إِلَى صَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ صَفْوَانُ: قَبَّحَ الله الْعَيْشَ بَعْدَ قَتْلَى بَدْرٍ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَجَلْ، وَالله مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ بَعْدُ، وَلَوْلا دَيْنٌ عَلَيَّ لا أَجِدُ لَهُ قَضَاءً وَعِيَالِي وَرَائِي لا أَجِدُ لَهُمْ شَيْئًا، لَدَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَقَتَلْتُهُ إِنْ مُلِئَتْ عَيْنِي مِنْهُ، فَإِنَّ لِي عِنْدَهُ عِلَّةً، أَقُولُ: قَدِمْتُ عَلَى ابْنِي هَذَا الأَسِيرِ، فَفَرِحَ صَفْوَانُ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ، وَعِيَالُكَ أُسْوَةُ عِيَالِي فِي النَّفَقَةِ، إِنْ يَسَعْنِي شَيْءٌ وَنَعْجَزْ عَنْهُمْ. 
فَحَمَلَهُ صَفْوَانُ وَجَهَّزَهُ بِسَيْفِ صَفْوَانَ فَصُقِلَ وَسُمَّ، وَقَالَ عُمَيْرٌ لِصَفْوَانَ: اكْتُمْنِي لَيَالِيَ، فَأَقْبَلَ عُمَيْرٌ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ، وَعَقَلَ رَاحِلَتَهُ، وَأَخَذَ السَّيْفَ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَيَشْكُرُونَ نِعْمَةَ الله، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ عُمَيْرَ بن وَهْبٍ مَعَهُ السَّيْفُ فَزِعَ مِنْهُ، فَقَالَ: عِنْدَكُمُ الْكَلْبُ، هَذَا عَدُوُّ الله الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ (يعني قَّدر عددنا يوم بدر وعرَّف قريشا به) فَقَامَ عُمَرُ، فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: هَذَا عُمَيْرُ بن وَهْبٍ قَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ مَعَهُ السِّلاحُ، فَهُوَ الْفَاجَرُ الْغَادِرُ يَا رَسُولَ الله، لا تَأْمَنْهُ، قَالَ: «أَدْخِلْهُ عَلَيَّ»، فَدَخَلَ عُمَرُ وَعُمَيْرٌ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ يَحْتَرِسُوا مِنْ عُمَيْرٍ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَعُمَيْرُ بن وَهْبٍ، فَدَخَلا عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَعَ عُمَرَ سَيْفُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: «تَأَخَّرْ عَنْهُ» فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ حَيَّاهُ عُمَيْرٌ: أَنْعِمْ صَبَاحًا، وَهِيَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:«قَدْ أَكْرَمَنَا الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ تَحِيَّتِكَ، وَجَعَلَ تَحِيَّتَنَا السَّلامَ وَهِيَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ»فَقَالَ عُمَيْرٌ: إِنَّ عَهْدَكَ بِهَا لَحَدِيثٌ. قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ بَدَّلَنَا الله خَيْرًا مِنْهَا، فَمَا أَقْدَمَكَ يَا عُمَيْرُ؟» قَالَ: قَدِمْتُ فِي أَسِيرِي عِنْدَكُمْ، فَقَارِبُونِي فِي أَسِيرِي، فَإِنَّكُمُ الْعَشِيرَةُ وَالأَهْلُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي رَقَبَتِكَ»، فَقَالَ عُمَيْرٌ: قَبَّحَهَا الله مِنْ سُيُوفٍ، فَهَلْ أَغْنَتْ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ؟ أَنَا نَسِيتُهُ وَهُوَ فِي رَقَبَتِي حِينَ نَزَلَتُ، وَلَعَمْرِي إِنَّ لِي غَيْرَةً، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «اصْدُقْنِي مَا أَقْدَمَكَ»، قَالَ: مَا قَدِمْتُ إِلا فِي أَسِيرِي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:«فَمَا شَرَطْتَ لِصَفْوَانَ بن أُمَيَّةَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ»، فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الله وَأَشْهَدُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله، كُنَّا يَا رَسُولَ الله نُكَذِّبُ بِالْوَحْيِ، وَبِمَا يَأْتِيكَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَفْوَانَ فِي الْحِجْرِ كَمَا قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَكَ الله بِهِ، فَآمَنْتُ بِالله وَرَسُولِهِ وَالْحَمْدُ لله الَّذِي سَاقَنِي هَذَا الْمَقَامَ…» الحديث. ( )
ماذا يفعل أي زعيم مهما كان واسع الصدر، عندما يتمكن ممن يحمل خنجرا مسموما ويريد اغتياله؟!! هل يمكن أن يتسع صدره لمثل هذا العفو الرائع؟!
قد نعرف سيرة زعيم من الزعماء، ويكتب مذكراته مثل فلان وفلان. لكن هل حياة هؤلاء في داخل بيوتهم، ومع خواص أصحابهم بهذا النقاء الذي يحاولون إظهاره؟ كلا؛ فعندما يختلف أحدهم مع صاحبه، تخرج كتب ومقالات بها أشياء لا تُتصور! تكشف لك عن شخصية لا تساوي فتيلا ولا قطميرا.
لكن كلما اقتربت من شخصية الحبيب صلى الله عليه وسلم، تجد الكمال في أبهى صوره.
فهل تتصور أحدًا من الناس أيا كان يقول لكل من يعاملهم، يقول لنسائه في البيت، ولأصحابه الذين يعيشون معه: يجب عليكم أن تنقلوا كل شيء رأيتموه مني!!. لأنه ليس لديه أبدا ما يُخفيه عن الناس. أبدا. تسع نسوة، عشن معه صلى الله عليه وسلم، في وقت واحد، ولم تخرج واحدة تذكر عيبا من عيوبه صلى الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد مماته. كانوا يتكلمون عما يحدث حتى في الفراش، فلا تسمع من إحداهن شيئا يعاب به صلى الله عليه وسلم على الإطلاق.. بل كلما تحدث الأقربون منه، تحدثوا حديث المعجب المحب الذي لا يرى عيبا أبدا.
هذه أمثلة بسيطة، وهناك العديد والعديد من الأمثلة في كل مجالات العظمة والشموخ، إذا أردت أن تبحث عن الكمال، فلن تجده إلا في الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وليس معنى هذا أن الأنبياء لم يكونوا كذلك. لا، فقد كانوا جميعا في أعلى درجات الكمال، ولكن لم يثبت عندنا من قصص الأنبياء في كل المجالات ما يكفي من القصص الثابتة لتقديمه لكل الناس ليتأسوا به، ولكن هناك العشرات من القصص عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، في كل خلق من الأخلاق. 
أعداؤه لا يجدون له عيبا: كلنا نعلم أن قومه وأعداءه-مع استفراغهم جهدهم في محاولة الوقوف على دخيلة من دخائله، أو على شيء يؤاخذونه به -لم يظفروا بشيء، حتي السنوات الأربعون التي قضاها بين مشركي مكة قبل البعثة، يعاملهم في أمور الحياة ليلاً ونهار، اجتازها الرسول صلى الله عليه وسلم وخلص منها سالما نقيا، لم يُصِبْه شيءٌ مما يصيبُ عامة الناس، حتى لقبوه «الصادق الأمين»، ومع شدة خلاف قريش له، وسلوكهم كل سبيل في محاربته وإيذائه، فإنهم لم يستطيعوا أن يقولوا شيئا في أخلاقه وصدقه وأمانته، بل كانوا يستودعونه أماناتهم. فكانت أحواله وشؤونه وهديه ظاهرةً لجميع الناس، استوى في ذلك أحباؤه وأعداؤه، ولم يَخْفَ عليهم شيءٌ من أمره.
لما جاءته الرسالة، عرض عليهم نفسه قبل أن يعرض رسالته، فقال وقد صَعِدَ عَلَى الصَّفَا ونَادَى عَلَى بُطُونِ قُرَيْشٍ: «أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» الحديث ( ).
هذا قبل النبوة، لم يجربوا عليه الكذب؛ ولذلك تجد أن هرقل كان ذكيا، عندما تسلم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يدعوه فيه إلى الإسلام، فطلب من أعوانه أن يبحثوا عن رجل من قريش أو من العرب ليسأله عن محمد، فوجدوا أبا سفيان، فجاءوا بأبي سفيان، وقال هرقل لأصحاب أبي سفيان: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنْ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ.وسوف أقص عليكم جزئية واحدة من الحوار الطويل الذي دار بين هرقل وأبو سفيان.
هرقل يسأل أبا سفيان، ويقول له: كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قال أبو سفيان: لَا. فعاد هرقل ليقول: سَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا؛ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى الله( ).
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكمال في كل شيء، ولذلك يقول بعض المستشرقين: أعظم معجزة لهذا النبي هي حياته؛ لأنها مكشوفة للشمس وليس عنده ما يُخفيه. بينما أي زعيم أيا كانت صفاته الطيبة عندما تقترب من أي من القريبين منه، يتأكد لك أن هناك نقصا شديدا في أمور أخرى.
حياته مكشوفة: بلغ الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم الكمال في كل شيء؛ فكانت حياته وسيرته مكشوفة، حتى بعض الأشياء التي فعلها وعاتبه الله عليها لم يكتمها.
أنتم جميعا تعرفون قصة السيدة زينب بنت جحش، لما جاء زيد بن حارثة إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله!، أريد أن أطلق زينب!! والله عز وجل أخبره صلى الله عليه وسلم أن زيدا سوف يطلقها وستتزوجها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: يا زيد! أمسك عليك زوجك واتق الله. فينزل القرآن الكريم: }وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ…{ (الأحزاب: 37).
تقول السيدة عائشة ويقول سيدنا أنس في هذه الآية: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كَاتِمًا شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ( ).
وموقف آخر، عندما يعاتبه الله تعالى في القرآن الكريم على ما فعله مع ابن أم مكتوم الأعمى، فيقول عز وجل: } عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءَهُ الأَعْمَى{ (عبس: 1-2) فإنه يخرج فيخبر الناس بهذه الآية( )،ليس عنده ما يخفيه، فكل حياته من أولها إلى آخرها كمال في كمال.
حياته في الجاهلية معصومة:حتى عندما هَمَّ صلى الله عليه وسلم -قبل البعثة- ببعض ما كان أهل الجاهلية يفعله من اللمم ؛ عصمه الله من ذلك. 
فعن علي بن أبي طالب رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهُمُّونَ بِهِ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ، كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا…» الحديث في نزوله مكة مرتين للسمر، ونومه حتى أيقظته الشمس، إلى أن قال: «فَوَاللهِ مَا هَمَمْتُ، وَلَا عُدْتُ بَعْدَهَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى أَكْرَمَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنُبَوَّتِهِ» ( ).
هذا هو الكمال، ولن تجد سيرة في التاريخ بلغ صاحبها الكمال في كل شيء إلا سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولهذا هي السيرة الوحيدة التي تصلح أن تكون قدوة، أما سِيَر غيره من الأنبياء والعظماء والكبراء فيستحيل أن تجد أحدا -لا في التاريخ ولا في الواقع- يصلح أن تكون حياته كلها قدوة، وقد بلغ الكمال في كل المحاسن إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد تجد أحدهم تقدّم في جانب من الجوانب، ولكن في جانب آخر لا بد أن يكون هناك تقصير.
وقد تجد عن بعض رسل الله -صلوات الله عليهم أجمعين- بيانا لبلوغهم الكمال في جانب من الجوانب، فإبراهيم بلغ الكمال في تسليمه المطلق لله عز وجل، وهذا يجب أن نتأسى به فيه، لكن عندما نبحث في جانب آخر، وأقول مثلا: كيف يكون التاجر مقتديا بسيدنا إبراهيم عليه السلام؟ فلن أستطيع أن أحصل على سيرة لسيدنا إبراهم نقتدي به فيها في تجارته، مع التأكيد أنه كان أحسن الناس في معاملته، ولكن لم يبلغنا عنه قصة نستطيع أن نقتدي بها فيه. ولكنك تجد في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ما تقتدي به في كل شيء، ففي تجارته مثلا، يقول السَّائِب بن أبي السَّائِبِ رضى الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم،َ فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيَّ وَيَذْكُرُونِّي، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَعْلَمُكُمْ» يَعْنِي بِهِ، قُلْتُ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! كُنْتَ شَرِيكِي، فَنِعْمَ الشَّرِيكُ كُنْتَ لَا تُدَارِي وَلَا تُمَارِي( ).
تجارته حتى قبل بعثته في مال خديجة رضي الله عنها، يحكي من كان معه، كيف كان صلى الله عليه وسلم نقي اليد، حسن المعاملة في تجارته. 
وهكذا في كل الجوانب تجد كمالًا مطلقًا.

المصدر : منارات