المصدر : إخوان ويكي
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.
ثمة أسباب عديدة دعتنى لإصدار هذا الكتاب..
منها أن هذه الخطابات تكشف عن جانب مجهول فى حياة الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله, ولم يطرق من قبل عندما كان فى مستهل الشباب, والنفسى تموج بالعواطف, وتجيش بالتطلعات نحو المستقبل.
وتكشف هذه الخطابات أن الإمام الشهيد رحمه الله رضى الله عما ارتضاه الله له, وعاش فى سلام بين عمل يحبه , وحب يعمل له, هذا الحب الذى جعله يتألق ككل موفق فى حبه هو " الدعوة" التى غرست بذرتها فى طفولته, وظلت تنمو بين جنبيه, وتتكامل – كما يتكامل فى بطن أمه جنين جاء من حب جارف.
ومن هنا اتسمت الخطابات بثقة, وأمل واستبشار وحمد لله على توفيقه. ومن هذه الأسباب أن هذه الخطابات التى لم يتصور مرسلها بالطبع أنها ستنشر يوما ما تكشف عن طبيعة سوية, صريحة تخلو من أى إثارة لتحايل أو تكلف, كما أنها تكشف عن بر عميق بالوالدين ما أجدر الشباب اليوم أن يتعلمه.
فالإمام البنا رحمه الله كان يقتسم مرتبه ما بينه وبين والده, وكان يرى أن هذا هو الواجب الطبيعى وكان يضيق لأن الضرورات لم يسمح له بالمزيد, وابرز من هذا البر الأدب الرفيع فى الخطاب, فهو يخاطب الوالد – دائما وأبدا- " سيدى الوالد" أو " سيدى الوالد الجليل" والوالدة " سيدتى الوالدة" وكان هذا دأبه فى مستهل شبابه أيام الإسماعيلية حتى أيامه الأخيرة , كما يتضح ذلك من آخر خطاباته التى أوردناها, ولم يتعلم الإمام البنا رحمه الله " الإيتيكيت" فى مدرسة فرنسية أو يطلع عليه فى الآداب العالمية والأوربية, ولكنه تأدب بأدب من أدبه الله تعالى فأحسن تأديبه: الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فعرف حق الأدب, وحق الأم وأدب الحطاب: وأن كل ما يمكن أن يقدمه من تضحية, ما يلزمه من أدب قليل فى حق الوالدين.
وإذا كان ثمة إضافة فهى إن هذا الأدب نحو الوالدين كان جزءا من الأدب العام الذى اتصف به الإمام الشهيد, فقد كان رحمه مهذبا غاية التهذيب, يرحب بكل من يأتيه, ويصغى إليه ويحتفل به ويقوم له, ويخاطبه بأحب الألقاب, يسأل عن حاله وأبنائه وأسرته ويرد على كل خطاب يصله.
وكان يحتفى بأقل الإخوان شأنا من فلاحين أو عمال أو طلبة فى مقتبل العمر, ومن قد تزدريهم الأعين لفجاجة منظرهم أو رثاثة ثيابهم, بل كان يلمس فيهم – أكثر من غيرهم – دفء العاطفة وصدق العلاقة وخلوص النية وكان يستشعر هذا بقلبه, كما يتعلمه من تأديب القرآن الكريم للدعاة نحو الجماهير والعامة والمستضعفين.
وتكشف هذه الخطابات عن جانب تربوى فى الإمام البنا رحمه الله, وكيف عنى بتعليم وتربية أشقائه الذين استقدمهم إلى الإسماعيلية ليطلبوا العلم فى المدرسة التى كان هو مدرسا بها وبوجه خاص الشقيق عبد الباسط رحمه الله, وكاتب هذه السطور, وكيف كان يشرف على تحفيظهما قصار السور والأحاديث.
ومقارنة الخطابات التى أرسلها الإمام الشهيد فى الأيام الأولى للإسماعيلية بل وقبلها ( 26 – 27) بآخر خطاباته المرسلة لوالده ( سنة 1947) ودراسة خطه, توضح وحدة الخط والأسلوب والصياغة.
ويكاد المتأمل فيها أن يقطع بأن كاتبها لم يتوقف, ولم يتردد ولم يضطر إلى شطب أو تعديل.
ويلحظ أن السطور تتوالى مموجة على الصفحة والحروف مجدولة فى الكلمات كضفيرة ذهبية مسترسلة أو كموجات متلاحقة على سطح نهر هادىء مما يعطى القارىء إحساسا بأن السطور تنبض بالحياة, وأنها بلورة لشخصية صاحبها, أو بصمة الخطية وانتظام سطورها ينم عن شخصية منتظمة سوية, مستقرة تتجاوب الإرادة فيها مع الذهن وهذه اللفتة تكشف عن ظاهرة هامة فى حياة وعمل الإمام الشهيد رحمه الله هى " الإستمرارية" فالإمام البنا هدى من شبابه إلى رسالته , بل هو أعد لها من طفولته, بحيث انه عندما بدأ العمل بالفعل سنة 1928, كان يواصل بداية أعد لها سلفا, وتابعها دون أن يضطر إلى انحراف أو تقطع أو مخالفة, فالخط متصل حتى عام 1949 عندما لقى الله .
وهذه إحدى النعم التى أنعم الله بها على الإمام الشهيد . وإحدى علامات توفيقه ورضاه.. إذ بدأ فى سن مبكرة قلما تتضح فيها الخطوط النهائية لدعوة الدعاة.
ولم يضطر – كما اضطر إلى ذلك كثير من الدعاة – إلى تعديل وتغيير. وإذا كانت دعوة الإخوان المسلمين قد تطورت من الصورة التربوية الصوفية التى كانت عليها أيام الإسماعيلية إلى الصورة السياسية الحياتية, فإن هذا التطور تم فى الأطر الإسلامية, وكان هذا التطور دليلا علة قوة وحدة الاتجاه لأنه لم يمس " الثوابت" والخطوط الأساسية فيه.
وتثبت إحدى الأوراق التى عثرنا عليها. وأثبتناها فى هذا الكتاب, أن الإخوان قد هوا إلى اسم " هيئة الإخوان المسلمين" من الثلاثينات عندما كانت نبتة صغيرة.
وتكشف هذه الخطابات عن بعض جوانب المجتمع المصرى فى الثلاثينات تجهلها بل لعلها لا تتصورها – أغلبية الشباب اليوم ولا يعدم القارىء بعض اللفتات عن تطور الإخوان.
وهناك بعد, سبب آخر هام كان من أقوى أسباب إصدار هذا الكتاب. هو تعريف الجمهور الإسلامى بوالد الإمام الشهيد سيدنا ووالدنا الشيخ أحمد عبد الرحمن البنارحمه صاحب الفتح الربانى وقصة كفاحه العجيبة فى تصنيف مسند الإمام أحمد بن حنبل وشرحه ثم طبعه وإصداره.
التى شغلته قرابة أربعين عاما. هذا الرجل العظيم الذى نفض يديه من عرض الدنيا. وعكف فى وحدة المتبتلين على عمله العلمى الكبير – لا يشغله شىء عن القراءة والكتابة , التحبير والتدبيج, التحقيق والتدقيق وتقصى المراجع من هنا وهناك.. حتى الهند ومطابعها وكتبها. وهو دليل نهار قابع فى مكتبه فى أحد أزقة القاهرة, لا يزور , ولا يزار إلا فى المناسبات ولا يقرأ الجرائد أو يسمع الراديو أو يشغل نفسه بهذا العالم الذى يضطرم بالشهوات والمطامع.
إن من حق هذا الرجل أن يرفع ذكره – وأن يكرم اسمه كما أن حق المسلمين أن يعرفوا حياته, ويلموا بكفاحه, ليس فحسب إحياء لذكراه أو تمجيدا لعمله ,لكن أيضا ليكون لهم فيه أسوة حسنة وليعلموا أن لا شىء يمكن أن يقف أمام الهمة العالية والعزيمة الصادقة.
رحمهما الله: الأب والابن, ونضر ثراهما, وأجزل مثوبتهما وعوضهما فى الآخرة وألحقنا بهم فى الصالحين. " والسابقون السابقون, أولئك المقربون فى جنات النعيم ثلة من الأولين, قليل من الآخرين"
وقل الحمد لله , وسلام على عباده الذين اصطفى"
الفصل الأول : ترجمة حياة وعمل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا
صاحب (الفتح الربانى) ووالد الإمام الشهيد حسن البنا _ رحمهما الله
النشأة والصبا
ولد الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا فى قرية شمشيرة مركز فوة محافظة الغربية, وهى قرية صغيرة لا تختلف عن قرى الدلتا ولا تتميز عنها باستثناء وقوعها على ضفة النيل مباشرة – وإن المركز الذى تتبعه " فوة" له تاريخ عريق.
وكان الشيخ رحمه الله يقول انه ولد سنة 1300 هجرية, ويبدو أنه تاريخ سهل على الشيخ حفظه, وهناك ما يؤيد هذه الرواية, فإن الشيخ كان قد استخرج بطاقة من بطاقات إثبات الشخصية حدد فيها سنة ميلاده بأنها سنة 1882 وهى توافق سنة 1300هـ .
وكانت أسرة الشيخ تمتلك عدة فدادين من الأرض تقوم بزراعتها ويعمل فيها أخوه الأكبر " محمد" وكان محمد فلاحا ماهرا يحسن زراعة أرضه, بل يستصلح بعض الأراضى البور التى كانت شائعة وقتئذ.
ومن المحتمل أن أحد أسلاف الأسرة كان يعمل بصناعة البناء ومن هنا لحق بالأسرة لقب البنا. وهى نقطة لم نحققها
وكان الابن الأكبر فى الأسرة ( محمد) هو الشخصية البارزة فهو الذى يتولى زراعة الأرض أو استصلاحها. وقد أراد أن يساعده أخوه ( أحمد) فى عمله الزراعى.
ولكن أمه كانت قد رأت فى منامها وهى حامل به أنها ستلد طفلا وعليها أن تسميع أحمد وتحفظه القرآن. فأصرت على أن يذهب إلى الكتاب وأيده أبوه – وكان رجلا صالحا – هذا الاتجاه وذهب به فى سن الرابعة إلى الكتاب.
وقبل شيخ الكتاب أو كما يطلقون عليه فى قرى مصر ( سيدنا) الطفل رغم أن سنه كان اقل ممن يذهب إلى الكتاب عادة, ويذكر الشقيق الأستاذ عبد الرحمن أن اسمه كان الشيخ محمد أبو رفاعى " وكان كفيفا تقيا يفيض وجهه إشراقا وبشرا" فحفظ القرآن على يديه وتلهم أحكام التجويد.
ونمت بسرعة مدراك الصبى, ومع تقدمه فى الدراسة كانت فكرة العمل الذى يمكن أن يحترفه دون أن ينقطع عن العلم والمذاكرة أو جهدا – وفكر أن يجعل من هوايته صناعة, وكانت تلك الهواية هى تصليح الساعات – وهى هواية صناعة, وكانت تلك الهواية هى تصليح الساعات – وهى هواية غريبة فى هذه القرية الصغيرة, وكان قد ذهب فى إحدى المرات إلى " مطوبس " ليصلح ساعة عند صانع كان يحضر مطوبس يوم السوق – يوم الخميس.
تطورت إلى صداقة أدت به لأن يذهب إلى رشيد ليتلقى أصول الصنعة على صانع محترف فى دكانه. ولكن مهارة الصانع لم ترضه, وفى إحدى المرات كان يصلى بالمسجد والتقى بعد الصلاة بإمام المسجد الشيخ أحمد الجازم وكان رجلا ذا مروءة.
فأخبره بقصته وانه يريد أن يجمع بين العلم والعمل, وأنه لم يجد طلبته لدى صانع رشيد, فطيب الشيخ خاطره وأرشده إلى محل كبير للساعات فى الإسكندرية يملكه الحاج محمد سلطان وأعطاه توصيه له, كما عرفه أن الإسكندرية جامع الشيخ إبراهيم باشا, وهو فى الإسكندرية كالأزهر فى القاهرة, وبهذا يمكنه مواصلة علومه واستكمال حرفته.
وعاد الفتى إلى شمشيره. وقد عقد العزم على السفر إلى الإسكندرية وعارض ذلك أخوه الأكبر, ولكن أباه قبل وتحمست أمه, وكانت أسرة علم ودين وكان أبوها صالحا تقيا, وأخوها فقيها يحفظ القرآن ويظفر بتقدير واحترام أهل قريته" سنديون" وهيأت له أمه " الزوادة" التى تكفيه حتى ينظم أموره.. وهكذا ذهب الفتى إلىالإسكندرية فقابل الحاج محمد سلطان وأبلغه تحيات الشيخ الجارم وتوصيته, فأكرمه وأفسح له مجال أحكام اصنعه. ثم ذهب إلى جامع الشيخ إبراهيم باشا وانتظم بين طلابه حتى أتم الدراسة به.
وبعد بضع سنوات عاد الفتى إلى شمشيرة شيخا شابا, وخطب الجمعة فى مسجد شمشيرة وقرت به عين أمه وأخذ يمارس تصليح الساعات فى شمشيرة ومطوبس وذكر له أحد إخوانه اسم " المحمودية" وأنها أولى اهتمامه, فزارها وسر بها وقرر أن يركز العمل فيها...
وكان عليه أن يتم أمرين: الأول أن يؤدى امتحان القرعة ليخلص من شبح التجنيد وفيما بعد كتب الشيخ فى أحد دفاتره " فى أول ديسمبر سنة 1902 موافق شعبان سنة 1320هـأديت امتحان القرعة العسكرية فى القرآن.
وكان سنة 19 سنة. ونجحت نجاحا باهرا" والأمر الثانى أن يتزوج. وهذا أيضا ما تم فى يوم الأحد 89 صفر سنة 1322 الموافق 25 أبريل سنة 1904.
وكانت " عروسه" الشيخ فتاة فى الخامسة عشر من عمرها هى الابنة الصغرى لإبراهيم صقر تاجر مواشى القرية, ويمكن أن يعد أكثر ثراء – شيئا ما – من أسرة الشيخ .
وكان فتاته على جانب من الجمال. بيضاء البشرة – متناسبة الملامح و" التقاطيع" دقيقة الأطراف : اليدين والقدمين. أسنانها مفلجة, وحواجبها مفروقة وقد تصور بعض أتراب هذه الريفية الجميلة الصغيرة التى لم تكدح – كالفلاحات – فى الحقل وكانت تحمل اسما " رومانتيكيا" وأعدا " أم السعد" أنها تستحق عريسا أفضل من " المجاور" الذى لم يكن يفخر بطول أو عرض, مال أو أرض . ولكن الله تعالى كان يدخر لها ما يفضل هذا. وما يجعل لها من اسمعا نصيبا, وليحفظ ذكرها فى الحافظين..
وكانت أم السعد على صغرها, ذكية مدبرة, واعية, كما كانت على جانب كبير من العناد, فإذا انتهت إلى قرار, فمن الصعب تتنازل عنه, وهى صفة ورثها,كما ورث ملامح الوجه, ابنها البكر – الإمام الشهيد – ولكن العناد عنده تحول إلى صورة سوية أصبح معها " قوة إرادة". وعندما تزوجها الشيخ جعلها تصلى, ومع كل فرض فرضا أهملت فى أدائه لمدة سنة أو أكثر – أى منذ أن بلغت الحلم.
سنوات المحمودية
وفى السنة التالية – 1903 – انتقل الشيخ بأهله إلى المحمودية التى, أخذت اسمها من اسم السلطان محمود سلطان تركيا عندما شق محمد على ترعة تبدأ منها, وأطلق عليها المحمودية وهى الترعة التى تزود الإسكندرية بالماء العذب من النيل وأقيم بجوارها مشروع كبير لمياه الصرف – كان الأهلون يسمونه – المشروع.. وإن حمل اسم محطة طلمبات العطف القريبة من المحمودية, والتى يحدث تبادل فى الأسماء ما بينهما, ولهذا لم تكن المحمودية قرية, مغمورة كانت " بندرا" نشطا وهى تواجه شمشيرة على الضفة الثانية للنيل. ولا يكون على من يريد أن يذهب إليها من شمشيرة إلا ركوب " المعدية" والنيل هناك واسع, عريض, كأنه البحر.. لأنه على مقربة من المصب فى رشيد..
وفى هذه الأيام لم تكن المركزية الحضرية قد وصلت إلى الدرجة التى وصلت إليها أيامنا ( 1990) وكان للبنادر شأن وحياة اجتماعية نشطة نشأت من ملازمة الطبقة الوسطى من صغار الملاك أو التجار لها. كما لم تكن الخصائص التى تميز المدينة وتجعلها قوة جذب بالدرجة التى أصبحت بها الآن.
وقد تحدث العقاد عن قنا فى شبابه باعتبارها مركزا للآداب يلى القاهرة, وكانت الفرق المسرحية والغنائية تحيى بعض حفلاتها فى العطف أو المحمودية. كما نجد أسم عبد الحميد العتال رئيس نقابة العطف من القيادات البارزة فى الحركة العمالية فى العشرينات.
كانت السنوات الأولى فى المحمودية رضية سخية. كان الشيخ " عريسا" شابا. وكانت المحمودية نافذة إذا قيست بشمشيرة.
وكان هو وعروسه فى ريعان الشباب, فوطن نفسه على الإستقرار بها واشترى بيتا صغيرا آوى إليه هو وزوجته, كما اشترى " دكانا" على النيل مباشرة لتصليح و بيع الساعات, ثم توسع مع ظهور " الجراموفون" والصورة الأولى للإسطوانات وكانت وقتئذ أشبه فى تجارته, ولم يكن هذا مستنكرا لأن معظم ما كانت تنطبق به هذه الإسطوانات كان تواشيح ومدائح. وكان معظم الملحنين من المشايخ.
على أن هذه اللفتة تكشف عن ناحية خافية فى شخصية الشيخ هى وجود الحاسة الفنية . وكانت هذه الحاسة مغروسة فى الشيخ ومعظم أبنائه وقد كان الشقيقان عبد الرحمن وعبد الباسط شاعرين مع ميل خاص للموسيقى وكان لدى الأول حيناما" ربابة" وهى الصورة الساذجى للكمان.
كما لدى الثانى " عودا" وألف الأستاذ عبد الرحمن مسرحيات إسلامية يمكن أن تجعله رائدا للمسرح الإسلامى, كما ألف الأستاذ عبد الباسط بعض الأغانى وكان الشقيق محمد.
وهو طالب فى الأزهر, يتغنى بين زملائه ببعض أغانى عبد الوهاب الأولى, وضمت مكتبة الشيخ مجموعات من مجلة " اللطائف المصورة" كما كان يجمع الروايات المسلسلة التى كانت تنشرها الأهرام أسفل إحدى صفحاتها وكانت هذه الروايات من تأليف شارلس جارفس, وآخرين, وكانت غرامية أو بولسية. وقد قطع الشيخ القصاصات التى كنت تنشر فيها يوما من يوم وجلدها, بل أغرب من هذا كان لديه مجموعة كاملة من مجلة " الأمل" التى كانت تصدرها منيرة ثابت, وهى أول سيدة أصدرت صحفا.
وكانت مجموعات اللطائف المصورة والأمل هما أول ما وقع عليه بصرى فى مكتب الوالد عندما كان يصحبنى إليه.. وأنا فى الخامسة أو السادسة, وكان تصفح صفحاتها والنظر فى صورها هوايتى, وفى فترة لاحقة كانت هى أول مطالعاتي, ولا أزال أذكر بعض الروايات المسلسلة التى كانت تنشرها هذه الصحف, وق كانت وفدية متعصبة إذ كانت تلك أيام سعد زغلول, فكان فى اللطائف لمصورة رواية بعنوان " زغاليل مصر" وأخرى بوليسية" الشبح" وكانت الأمل تنشر رواية مسلسلة بعنوان " قمر بنى إسرائيل" عن تاريخ مصر فترة ظهور موسى.
وبالطبع فإن الشيخ رحمه الله قرأ هذا كله فى شبابه وكان له أثر فى تخليص أسلوبه عندما كتب شرح المسند" بلوغ الأمانى" من الركاكة والتكلف التى كانت سمة كتابات الفقهاء وقتئذ وجعله أسلوبا سهلا سائغا, وهذا ما نجده أيضا فى أسلوب الإمام الشهيد رحمه الله فإنه من السهل الممتنع.
ولم يكن تصليح الساعات أو بيع الإسطوانات ليمنع الشيخ مواصلة هوايته العظمى – الإطلاع المذاكرة وتحصيل العلوم الإسلامية وكان من حسن حظه أن التقى وقتئذ بالشيخ محمد زهران.
والشيخ محمد زهران كالشيخ البنا نفسه, أحد الأمثلة البارزة على علو الهمة. وقو الإرادة فقد كان كفيفا, ولكن ذلك لم يقعده بجانب نشاطه العلمى والعملى اليومى.
من أن يصدر مجلة باسم " الإسعاد" كانت تصدر على غرار مجلة المنار الشهرية. وكان يقوم بإدارتها وتحرير معظم مادتها.
ونشأت علاقة وثيقة بين الشاب القادم من شمشيرة, وبين عالم المحمودية وفقيهها, بدأت أولا بتلميذة ثم انتهت إلى صداقة حميمة وأخوة كريمة.
فكان الوالد رحمه الله يقرأ للشيخ زهران ويكتب ما يمليه عليه, ويدور بينهما خلال ذلك حوار مثمر وحديث مفيد.
وبعد فترة قصيرة أصدر الشيخ الوالد أول مطبوعاته وهو " شرح وظيفة سيدى أحمد زروق والمسمى بالفوائد اللطيفة, فى شرح ألفاظ الوظيفة تأليف العالم العلامة.
العارف بربه سيدى أحمد السجاعى رضى الله عنهما" وطبع " على نفقته ملتزمة الفقير إليه تعالى أحمد عبد الرحمن الساعاتى" فى مطبعة النجاح لصاحبها إبراهيم خليل بدمنهور.
وكان دور الشيخ هو تحقيق النص المنسوخ – وليس المطبوع – وكانت النسخة المخطوطة فيها شىء من التحريف فعرضها - كما قال " على أستاذى الهمام وشيخى الفاضل المقدام – العالم المحقق والبحاثة المدقق. محيى السنة ومعديها – ومميت البدعة ومبيدها, خادم السنة والقر