مقدمة
تحدثنا في الحلقة السابقة عن علاقة الإخوان بالأزهر الشريف ومكانته في قلوب الإخوان، واهتمامهم بشئونه والعمل على تطويره ودفعه إلى احتلال مكانته التي افتقدها مع مرور الزمن، وتأييده في كل خطة يراد بها خدمة الإسلام والمسلمين، وعلمنا كيف عمل الإمام البنا على دفع الأزهر ورجاله إلى العمل للإسلام، وكيف كان الأزهر في فكر وكتابات الإمام البنا.
وفي هذه الحلقة نكمل هذه العلاقة، وكيف عمل الإخوان المسلمون على إصلاح المجتمع كما أوضحنا في المقالات السابقة دور الإخوان في إصلاح المجتمع ومحاربة الفساد، غير أنهم كانوا يضعون الأزهر الشريف في مقدمة الأمر بحكم مكانته في خدمة الإسلام؛ فقد عمل الإخوان على التعاون مع مؤسسة الأزهر في محاربة الفساد، ونرى ذلك في خطاب الإمام البنا الذي أرسله إلى وكيل الجامع الأزهر يحثُّه فيه على محاربة الخلاعة التي انتشرت في الصحف السيارة والتي أصبحت تتاجر بأعراض النساء عبر صفحات جرائدها؛ فقد جاء في إحدى هذه الرسائل قوله: "حضرة صاحب الفضيلة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
أبعث إلى فضيلتكم من الخطاب الذي وجهته إلى وزير الداخلية بخصوص ما تنشره بعض المجلات المصرية من الصور والمناظر الفاجرة بلا تحرج أو حياء، غير ناظرة إلى اعتبار خلق أو وطنية، فيكون لذلك في الأمة والمجتمع نفسه من الآثار لها مغبة وعاقبة.
ولا شك أن فضيلتكم يحملون هدى الله، والناس والتاريخ تبعة عن هذا الخطر الوبيل.
لذا نمدكم باسمها أن تتصلوا بالمسئولين رجل السلطة التنفيذية ليضعوا لهذا الفساد حدًّا، وأنتم بحمد الله من أحرص الناس على دين الله وأحرصهم على الأمانة وحمل التبعة، فاعملوا، والله لكم ولن يتركم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
وقد حرص الإخوان على تبجيل واحترام وتقدير شيخ الأزهر وإنزاله مكانته الطبيعية ما دام يعمل وينافح عن الإسلام؛ مما كان له آثاره المحمود في علاقة شيخ الأزهربالإخوان، حتى إن الشيخ المراغي كتب في (مجلة المنار) الجزء الخامس والثلاثين عام 1939م يقول: "إن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على الطريقة التي يرضاها سلف هذه الأمة".
وقد نشرت جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية تحيةَ الإخوان للكلمة التي أجاب بها شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي وفد الطلبة المغتربين الذين جاءوا لتهنئته بتولية المنصب بقوله: "وإني لأرى في بداية الأمر أن أقول لكم إنكم لستم في مصر غرباء، إنما أنتم في مصر، ومصر بلد الإسلام، والإسلام وطننا جميعًا".
وقد علَّقت الجريدة على تلك الكلمة بقولها: "هذه كلمة عظيمة يعلن بها رجل عظيم، وإن كانت هذه الكلمة جزءًا من منهاج الأستاذ الأكبر- وهي كذلك بحق- فإننا نبشِّر أنفسنا بخيرٍ كثيرٍ، فعلى الأزهر أن يستعد لأداء أمانته، وعلى مصر زعيمة الإسلام أن تتجهز لحمل راية الزعامة من جديد".
كما نشرت إعلانًا عن حفلة تكريم لشيخ الأزهر وقالت: "إنه تقرر نهائيًّا أن تقام الحفلة التكريمية الكبيرة التي اعتزم لفيف من العلماء والطلاب إقامتها لفضيلة الأستاذ الأكبر في الساعة الخامسة من مساء يوم الأربعاء 3 يوليو في أرض المعرض الزراعي الصناعي العام، وقد أعدت اللجنة التي أُلِّفت لهذا الغرض مكبرات للصوت ليتسنَّى لجميع الحاضرين سماع ما يُلقَى، كما أنه في النية إذاعة الخطب والقصائد بالراديو لتُسمَع في جميع أنحاء البلاد، وسينوب عن الطلاب في إلقاء كلمتهم حضرة الشيخ أحمد حسن الباقوري رئيس الاتحاد الأزهري".
وعندما رحل الشيخ المراغي نعته الإخوان على صفحات جرائدهم تحت عنوان "فقيد الأزهروالإسلام في ركب الموت".
الإخوان والأزهر في وجه الفساد
على الرغم من أن الأزهر الشريف كان يعد رمزَ المسلمين وقبلة الطلبة من كل حدب وصوب، فقد طالب الإخوان بأن تكون المناصب في الأزهر بالانتخاب، سواء منصب الشيخ الأكبر أو منصب عمداء الكليات بالأزهر، فكتبوا يقولون: "لو يوفق الله ولاة الأمور في مصر فيجعلون الأزهر الشريف حقًّا مشاعًا لجميع الأمم الإسلامية، لَضمنوا بذلك هذه الوحدة التي طالما أعيت كل جهاد، وأضاعت كل مجهود.
منصب الشيخ الأكبر: ولو أن منصب شيخ الأزهر حين يخلو يتفضل حضرة صاحب الجلالة الجالس على عرش مصر فيزكي عشرةً من كبار العلماء بصرف النظر عن جنسياتهم، يرشحهم لانتخاب الشيخ الأكبر منهم، ويجيز للعلماء المتخرجين في الأزهر على اختلاف أممهم حق التصويت في الانتخاب، وحينئذ تصدر الأوامر للسفارات المصرية في جميع أنحاء العالم لأخذ آراء علماء الأزهر رسميًّا في شيخهم، لكان ذلك أبلغ في توحيد الصفوف وجمع الكلمة وتعاطف القلوب.
ولا يغيب عن البال أن كثيرًا من هؤلاء العلماء قد يشغل منصبًا خطيرًا في دولته التي يقيم فيها.
مناصب العمداء:
ولو استنوا مثل هذه السنة في مناصب عمداء الكليات حين تخلو؛ يرشحون لها كذلك عددًا معينًا من العلماء اللائقين بصرف النظر عن جنسياتهم، ويكون حق التصويت للمتخصصين في كل كلية في اختيار عميدهم لأحدثوا بذلك حركة دائبة ودائرة متصلة بين جميع الأمم الإسلامية محورها الأزهر الشريف".
ولقد أرسل الإمام البنا برسالة إلى شيخ الأزهر للإصلاح قال فيها: "حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر.. نحمد إليكم الله لا إله إلا هو ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وحماة شرعه إلى يوم الدين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
فقد كان من أسعد الأنباء اعتزام فضيلتكم بالاشتراك مع وزارة الأوقاف تأليف لجنة علمية إسلامية تبحث مواضيع البدع والخلافات ليقف الناس على رأي صحيح ناضج يتفق مع روح الدين ونصوصه يتبعه الناس ويرتفع به الخلاف وتمتنع به الخصومة.
ولقد أحببنا أن نكتب إلى فضيلتكم لنشير إلى هذه الهمة الموفقة ولنهنئ بهذا العزم المبرر ولندليَ ببعض ملاحظاتنا حول هذه الفكرة:
- أولاً: حبذا لو فكَّر فضيلة الأستاذ الأكبر في أن تتضمن هذه اللجنة الموقرة أكبر ما يمكن من العناصر المختلفة ليكون في اتفاقها القضاء التام على المبتدعات والخلافات، فيكون هناك مندوب عن الصوفية بمعرفة دارهم الرسمية، ومندوب عن السبكية بمعرفة جمعيتهم وشيخهم، ومندوبون عن الجماعات الإسلامية التي ترى المشيخة أهليتها لذلك، ونحن نعلم ما يعترض تنفيذ هذا المقترح من عقبات يرجع معظمها إلى المزاج التكويني الخاص برجال هذه الفرق، ولكننا مع هذا نعتقد أن روح الإخلاص والألم من الفُرْقة والشعور بضرورة الوحدة وحكمة أعضاء اللجنة وهمة فضيلة الأستاذ سيكون لذلك كله الأثر في توحيد القلوب وتوجيهها نحو الغاية إن شاء الله.
- ثانيًا: نرجو أن تُعنَى اللجنة أول ما تُعنَى بتوضيح القواعد الأصولية وتقريرها تقريرًا متفقًا عليه فيما بين أعضائها؛ إذ إن هذه الأصول ستقوم مقام الحكم في مقام الخلاف، فترد الحائر وتهدي الضال وتقرب مسافة الخلاف وتقصر طريق البحث، ومثال ذلك العناية بتعريف البدعة وتحديدها وبيان أنواعها، وحكم البدعة الإضافية والتركية والفوارق بين هذه النواحي، وناحية المصالح المرسلة واجتهاد الإمام وإلى أي حد يؤخذ به وهكذا... إلخ".
وكذلك أرسل الإمام البنا برسالة بشأن ما تكتبه مجلة الأزهر في ترجمة القرآن الكريم، ولم يكن الإصلاح مقصورًا على الأستاذ البنا، بل شاركه جموع الإخوان؛ فقد كتب بعضهم مقترحًا بأنه من حق طلاب التعليم الثانوي بالأزهر أن يلتحقوا بمدرسة الحربية؛ لما يتمتعون به من عقيدة قوية وإيمان صادق، ولا تكون هذه المدرسة مقتصرة فقط على طلاب التعليم الثانوي في المدارس المصرية، كما قرَّروا هذا الاقتراح أيضًا بالتحاق طلبة الأزهر الشريف بمدارس البوليس، كما طالبوا أيضًا أكثر من مرة بتدريس اللغات في كليات الأزهر، حتى يواكب الأزهر وطلابه رسالتهم العالمية.
وشجع الإخوان مشيخة الأزهر على إرسال بعثات إسلامية إلى بلدان العالم لنشر الإسلام، ولتعليم الأقليات المسلمة أمور دينهم، ونذكر على سبيل المثال دعوتهم إلى إيفاد بعثة إسلامية على جناح السرعة إلى اليابان، وأخرى إلى الهند، وثالثة إلى المسلمين في بلغاريا.
غير أن الإخوان كانوا يعيبون على رجال الأزهر بعض تصرفاتهم التي كانت تسيء إلى الإسلام، ومن هذه المواقف موقف الشيخ المراغي من تصرف وزارة محمد محمود بمناسبة حفل زواج الملك وما حدث فيه من انتهاكات ومآخذ تعرض للقيل والقال، فأنكر الإخوان على الشيخ صمته وسكوته، خاصةً أن له مواقف أخرى ذات لون حزبي مختلف، ولذلك تساءل الإخوان: "هل أحكام الإسلام تتغير بتغير الوزارات؟!".
كما اهتم الإخوان بتأبين علماء وشيوخ ودعاة الأزهر بصورة تليق بمكانتهم ومنزلتهم، مثل نعي الشيخ عبد المجيد اللبان.
لا شك أن الأزهر قد خلَّف آثارًا في مصر وفي الشرق إن أنكرها الناس فلن ينكرها التاريخ، وإن أهملها المتعنتون من الكتاب فلن يهملها السفرة الأبرار من ملائكة الله؛ فقد أتى على مصر حين من الدهر كانت فيه حيرى سادرة تخبط في ليل ثقيل الظلال، فكان الأزهر هو الضوء الذي تعشو إليه، والحبل الذي تعتصم به، فلا أقل من أن تجزيَه الأمة فضلاً بفضل وإحسانًا بإحسان، فيتعاهد الملهمون من قادة الفكر على مدِّه بما يحتاج إليه من وسائل الإصلاح وضروب الإنتاج وأساليب الدعاية، ويهيئ ولاة الأمر لأبنائه نزلاً مرموقة حتى تتراءى فيهم كرامة الإسلام وعزة المؤمنين.
إن الأمة تنفق الكثير في محاربة الشر وحياطة الأخلاق وتنشئة الأمة النشأة الصحيحة، ثم لا تظفر في النهاية إلا بلمع من النصر، فلو أصلحت رجل الدين لكفاها ذلك كله، ولاستطاع أن يرد على العالم ظل الإسلام ليجد فيه برد الراحة وجمال الهدوء ونعمة الاستقرار.
اعتبر الإخوان أن الأزهر ملاذهم حين تقف في وجوههم الصعاب، ومما يبرهن على مدى مكانة الأزهر ودوره عند الإخوان أنهم كانوا عند الشدائد يلوذون بالجامع الأزهر؛ ففي عام 1941م بعدما منع حسين سري باشا الإخوان من عقد مؤتمرهم السادس في سراي آل لطف الله وعقده في دارهم، توجَّه الإخوان المحتشدون في اليوم التالي لأداء صلاة الجمعة في الجامع الأزهر الشريف تتقدمهم جوالتهم بأعلامها، وبعد أداء الصلاة تعاقب خطباء الإخوان على المنبر المبارك يشيدون بدعوة الإخوان؛ مما يدل على أن الإخوان والأزهر شيء واحد.
كما أنه في بداية عام 1945م بعد أن اشترى الإخوان دارهم الجديدة بميدان الحلمية وجهَّزوها وأعلنوا عن موعد افتتاحها في ميدان الحلمية، وكانت جموع الإخوان قد توافدت من كافة أنحاء القطر المصري إلى الدار للاحتفال بالافتتاح، إلا أن أحمد ماهر رئيس الوزراء آنذاك رفض أن يعقد الاحتفال؛ مما وضع قيادة الإخوان في وضع بالغ الحرج، فأصدر فضيلة المرشد العام أمره للإخوان بالتوجُّه إلى الجامع الأزهر، وكان يوم جمعة، وبعد أداء الصلاة صعد الشيخ عبد المعز عبد الستار المنبر وخطب في الجَمْع، ثم صعد الإمام البنا ووقف يخطب في الإخوان قائلاً: "أيها الإخوان.. لم نَلْتَقِ في هذا المسجد على شكل مظاهرة، وإنما ليس في القاهرة بعد قرار مصادرة الاحتفال بافتتاح دارنا مكانًا يتسع لهذا اللقاء في شكله وفي مضمونه سوى الجامع الأزهر"، ثم انتهى الحفل وعادوا إلى الدار.
رسالة الأزهر
قام الأزهر منذ أن قام قبل ألف عام ليحمل رسالة الإسلام للعالم تعليمًا ودعوةً، وظل الأزهر خلال هذه العقود يتقدم الصفوف بهذه الرسالة الخالدة، ولمَّا انتابه ضعف في العهود الأخيرة أدى ذلك إلى ظهور جمعيات إسلامية تَجبُر الكسر وتسد الخلل الذي يتركه الأزهر وعلماؤه، وتشد على يد الأزهر للقيام برسالته.
وكان الإخوان من أقوى هذه الجمعيات التي اعتبرت رسالتها هي نفس رسالة الأزهر، وهي حمل الإسلام ونشره في العالمين، وقد أوضح الإمام البنا ذلك في رسالة المؤتمر الخامس قائلاً: "والأزهر معقل الدعوة الإسلامية وموئل الإسلام؛ فليس غريبًا عليه أن يعتبر دعوة الإخوان دعوته، وأن يعد غايتها غايته، وأن تمتلئ الصفوف الإخوانية بشبابه الناهض وعلمائه الفضلاء ومدرسيه ووعاظه، وأن يكون لهم جميعًا أكبر الأثر في نشر الدعوة وتأييدها والمناداة بها في كل مكان".
واعتبر الإخوان منذ أن قامت جماعتهم أنهم والأزهر يعملون لغاية واحدة؛ ولذلك تابع الإخوان باهتمام شديد أخبار الأزهر في صحفهم ودورهم ولقاءاتهم من أجل عون الأزهر على القيام بدوره؛ ولذلك فقد خصصت مجلة (النذير) سلسلة مقالات تحت عنوان: "صيحة وتذكير .. الأزهر"، كما نشرت المجلة في أكثر من مرة رسالة موجَّهة من فضيلة المرشد العام إلى شيخ الأزهر حول قضايا الأزهر المختلفة.
ومما يجدر الإشارة إليه أن مجلة الإخوان المسلمين خصصت بابًا بعنوان: "أزهريات" كان يحرره الأخ كامل عجلان المدرس بمعهد قنا الأزهري والسيد إبراهيم حسن؛ تناول هذا الباب أخبار الأزهر المختلفة العلمية والدعوية، إضافةً إلى متابعة أخبار الأزهر في باب "أبناء العالم الإسلامي".
وكان من أبرز المشكلات التي تابعتها صحف الإخوان مشكلة بطالة خريجي الأزهر؛ حيث ذكرت مجلة الإخوان أن مشكلة الخريجين المتعطلين أصبحت بشكل لم يسبق له مثيل؛ حيث إن هناك مئات من الشبان الذين تخرجوا ولم يجدوا عملاً، بالإضافة إلى مشكلة ضعف رواتب أصحاب الفضيلة الأئمة العلماء، وعدم العناية بشأنهم، في الوقت الذي أنصفت فيه جميع طوائف الموظفين؛ ولذلك فإن المجلة لفتت انتباه أنظار ولاة الأمور إلى ذلك.
ولا شك أن الأزهر وعلماءه كان لهم دورهم الواضح في الدعوات والحركات الإسلامية؛ لا في مصر وحدها، بل في العالم الإسلامي كله، ولو لم يعتز الإمام الشهيد حسن البنا بدور الأزهر ما تردد على علمائه وشيوخه وجالسهم، ولو لم يأمل فيهم الخير ما قدَّم إليهم مقترحاته حول الدعوة الإسلامية، وقد سبق أن أشرنا إلى اللقاءات التي تمت بين البنا والشيخ يوسف الدجوي والشيخ رشيد رضا، ولقد كان واضحًا تأثر البنا الشديد بمدرسة الأفغاني ومحمد عبده، وهما من رواد حركة التجديد الإسلامي التي انبثقت من الأزهر، بل إن الملاحظ على أول تشكيل لأعضاء مكتب إرشاد لجمعية الإخوان المسلمين أن كان من بينهم أربعة علماء من الأزهر.
ولذلك رسم الإمام البنا لأتباعه منهجًا سديدًا في التعامل مع الأزهر ورجاله، وكان قوام هذا المنهج كما يجليه الأستاذ عبد الحكيم عابدين هو الحفاظ على الأزهر ومكانته وتوقير رجاله مهما كانوا، وهو بذلك المنهج قد نجح في التوفيق بين دعوة الإخوان المسلمين ورجاله "المُطَرْبَشين" وبين الأزهر وعلمائه وطلابه؛ فقد كان الإمام الشهيد يشدد دائمًا في التوصية على احترام الأزهر ورجاله احترامًا حقيقيًّا لا صوريًّا، بل كان يرى ضرورة انصراف القلوب إلى احترام الأزهر بالرغم من كل ما كان يقال فيه أو ينسب إليه من تقصير وفتور.
ولقد كان للأستاذ في هذا نظرة عميقة لا يدركها إلا الداعية الذي يتجرَّد لإسلامه ويتمنى الخير له ولو على يد من يحاربه هو شخصيًّا؛ إذ كان يوصي بذلك في الوقت الذي تعاني فيه دعوة الإخوان حربًا قوية من بعض خريجي الأزهر المنتشرين في البلاد؛ إذ كان الإمام البنا يرى أن الأزهر هو حصن منيع وصرح شامخ للإسلام يجب الحفاظ عليه، مهما كان الأزهر ضعيفًا؛ لأنه ليس من السهل على أي عدو أن يحارب الإسلام طالما الأزهر موجود بقوته وهيبته وسلطانه.
ولذلك حافظ الإخوان على الأزهر ومكانته في نفوس الناس، ولم يتطرَّقوا إلى مشاجرات جانبية مع الأزهريين، ولم يعرضوا لمثالب الأزهر أو يشيعوها على نطاق واسع في المجتمع وخاصة بين الشباب المثقف.
أضف إلى ذلك أيضًا أنه كان من وصايا الإمام الشهيد لدعاة الإخوان تقديم العالم الأزهري حيث وُجِد، وألا يتقدموا عليه حتى لو أراد الجمهور ذلك؛ الجمهور يفضِّل لأن خطب الإخوان التي تعلموها من الإمام البنا التي كانت تتميز بنهج جديد فريد لم يتعود الناس أن يسمعوه حتى من الوعاظ المتخصصين.
وإذا اضطر الأخ إلى الحديث فبعد العالم الأزهري، ويقول الأخ عند إقبال الناس عليه: إن الفضل لله ثم لإخواننا مشايخ الأزهر ولأهل الفضل فينا.
وكان الإمام يوصي أيضًا بالرد بإحسان على من يسيء إلى الإخوان من الأزهريين، ويجب أن يكون الرد عليه بالكياسة اللازمة التي تجعله محبًّا للإخوان بدلاً من أن يكون عدوًّا لهم.
ولقد كان مسلك الأستاذ البنا من الأزهر التودُّد إليه، ولم يكن مسلك مداهنة ولا مصانعة، بل كان مسلك مَن يؤمن أولاً بأن تبقى للأزهر هيبته، وثانيًا بأنه لا بد أن تبذل الجهود لاستصفاء رجاله ليكونوا أهل دعوة حقيقية، وثالثًا مسلك من يريد أن يربيَ جنوده على الأدب الإسلامي المثالي، وهو مسلك البناء لا الهدم.
إذ كان يقول دائمًا لأتباعه: "لا تشغلوا أنفسكم بهدم البناء الفاسد؛ لأن هذا البناء الفاسد له قوم يعيشون فيه؛ يقتاتون منه ويسهرون عليه ويقتلون من أجله، فكلما مددتم أيديكم إلى هذا البناء ولو بقصد تطهير الأمة منه استعديتم هؤلاء عليكم فيصدوكم عن البناء ويلزموكم من الجهد ما لا طاقة لكم به، وربما انتصروا عليكم لأنكم ناوشتم في مكان عظيم، فدعوهم في بنائهم الفاسد واشتغلوا أنتم ببناء بنائكم النظيف السليم؛ فإذا أكملتم بناءكم فسوف يتجه الناس إليكم جميعًا ليكونوا فيه دون أية مشاكل".
فكان من ثمرة هذا المنهج الذي اتبعه الإمام البنا نحو الأزهر أن فتح الأزهر قلوبًا وأبوابًا وأساتذة وطلابًا لدعوة الإخوان المسلمين، كما أنه أذاب الاحتكار الذي كان يدعيه رجال الأزهر للدعوة الإسلامية وخاصة بعد أن التحق بعض طلبة الأزهر بالإخوان، وما لبثوا أن أصبحوا أساتذة ومدرسين ووعاظًا لهم التوجيه ولهم القيادة في الأزهر، ووصل بهم الأمر أن حوَّلوا الأزهر إلى ثكنة للإخوان تشبه ثكنة الإخوان في الجامعة.
وهكذا مرت السنون والأزهر ثابت كالطود، راسخ كالصخر، وقد علا صوته في الناس أن تعاليم الإسلام يجب أن تسود البشر، وأن المسلمين يجب أن يحكموا بما أنزل الله، وقام علماؤه يتقدمون في كل حادثة مهمة والشعب من ورائهم يطالب بحقوق الإسلام كاملة غير منقوصة، وينادي بأن الإسلام دين العزة والسيادة، وأن المسلم لا يعيش تحت نير المذلة والاستعباد.
رؤية الإخوان لإصلاح الأزهر
يرى الإخوان المسلمون أن الأزهر هو قلب العالم الإسلامي؛ فإذا صلح صلح جسده كله وأضاء بنور علمه مشارق الأرض ومغاربها؛ ولهذا كان الإخوان بمؤسساتهم وأفرادهم لا يتوانون لحظة عن تقديم النصح للمسئولين عن الأزهر، ومن أمثلة هؤلاء الأخ زكريا إبراهيم الزوكة الذي قدم رؤيته لإصلاح الأزهر في باب "في الميزان" جاء فيها:
الأول: واجب الأزهر
- فواجب الأزهر أن يكون بمثابة القوة الدائمة المتأهبة، والتي يحتمي بها المسلمون في الحفاظ على حدوده، أو الدفع بهذه الحدود في جهاتها الأربع، ومعنى هذا أن كل رجل من رجاله لا بد أن تجريَ في عروقه روح التضحية، وتتراءى في أعماله مظاهر العزم المصمم، والكفاح الدائم في سبيل عزة الإسلام ورفع رايته والتمكين لكلمته؛ فلا يكون فيهم من تثقل روحه فلا يرتفع عن الأرض، ولا يكون فيهم من يجبن فلا ينطق بكلمة الحق، ولا يكون فيهم من يتهافت على الدنيا تهافت اليائس من الغد، كما لا يكون فيهم الإمعة الذي قُصاراه أن يخرج من الدنيا كفافًا لا عليه ولا له، إنما يكون فيهم الداعي إلى الله، الحافظ لحدوده، الصادع بأمره، هذا الذي يستفتح كل يوم من أيامه بهذا النشيد السماوي ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)﴾ (الأنبياء).
الثاني: وسائل الأزهر لأداء واجبه
ولكي نحقق ذلك لا بد من عدة أمور يشد بعضها بعضًا حتى تتكون القوة العارمة التي تشق الطريق وتفضي إلى الغاية وهي:
أ- إعداد الطالب
- فلا بد أن يقف الطلبة على أبواب الكليات وقفة طويلة ليغربلوا غربلة ملؤها الصدق؛ فلا يدخل إلا من كان معدنه يصلح ليكون سهمًا من سهام الله، وما عدا ذلك فيوجَّه إلى ما خلق له، ثم يربَّى المصطفون تربية حازمة تدفع بهم في صدر الحياة أثبت إيمانًا وأمضى سلاحًا وأقدر ما يكون على النفع والانتفاع.
- لقد أصبح أمر الكليات عجبًا بعد أن استبيحت لكل عاجز يدخلها ما دام جواز المرور حفظ صفحات من الكتب يرددها ترديد الحاكي لما مُلِئ به، وهذه حال لا يخرج منها الذكي إلا أحد رجلين: إما يائس قد أطفئ سراجه وخمدت ناره ليرتدَّ إلى نوعٍ من الرضا العاجز والزهد المكذوب، أو ثائر حاقد أعماه الغبن وبرَّحه البخس واندفع يضرب ذات اليمين وذات الشمال ويهاجم الحق بالباطل.
ب- اختيار الكتاب
- ونريد بالكتاب ما يشمل النوع والكيف، وفي رأينا أن الدراسة في القسمين الابتدائي والثانوي تحتاج إلى تعديل ميسور، فيعفى الطالب أول التحاقه من حفظ جميع القرآن على أن يدخل بنصفه ثم يتمه مع إتمام دراسته الابتدائية، وتستبدل حصص القرآن بحصص الفقه كاملاً في القسم الثانوي.
- أما التعليم المتوسط فتكفيه لغة أجنبية تدرس بعناية وإخلاص؛ فلقد منيت اللغات في الكليات بفشل يبكي له القلب، ثم يجيء التعليم العالي وأكثر آفاته الكتب وما تعقدت به والتوت عليه؛ فمن الخير أن تصفى تصفية تنقي خبثها، وتسهِّل وَعْرها، وتسلك بها إلى الأذهان أقرب الطرق.
- أليس من الغريب أن يقذف بالطالب في متاهات الحواشي والشروح ليرهق وقته وعقله في مناقشة آراء دالت دولتها وذهبت ريحها؟! وماذا يفيد الطالب من دراسة الفلسفة الإلهية وما يتصل بها ويعين عليها؟! وما انحدر المسلمون في هذه الوهدة إلا حين فلسفوا الدين، ونقلوا الإيمان من القلب إلى العقل، وكثيرًا ما نسمع أن هذه الدراسة الصلبة المتوعرة تذكي الذهن وتخلق ملكة البحث، وهو محض خيال لا يتحقق إلا إذا ثبت أن أشعة أنواع الرياضة هو الذي ينمي الجسم ويخلقه خلقًا سويًّا.
ج- ترشيح الأستاذ
- أما مشكلة الأساتذة فلا يكفي لنطمئن إلى العالم الذي يقوم بالتدريس في الكليات أنه أمضى كذا سنة في التدريس بالمعاهد، أو أنه كان في الصف الأول من صفوف التخرج.. إلخ، فما أتفه كل هذا!، إنما الأستاذ في الكليات مقرر علم ومربِّي نفس؛ فيجب أولاً أن يضع كتابًا في المادة التي يقوم بتدريسها ليدلل على نفاذ فكره أو سعة اطلاعه، ثم يتصل بتلاميذه اتصال الشيخ بمريديه؛ يتعهَّدهم ويراقب سلوكهم ويأخذهم برياضة نفسية معتدلة تدور على هذه الآية ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24)، حتى يخرجوا للناس فيخاطبوهم بألسنتهم وأفعالهم؛ فليس العالم الديني كالعالم المدني؛ كلٌّ ما يعوزه العلم، ولكنه رجل تؤخذ عنه الشريعة، والشريعة علم وعمل".
خطاب البنا إلى علماء الأزهر الشريف
ولقد أرسل الإمام البنا خطابًا إلى علماء الأزهر الشريف يحثهم على العمل فقال فيه:
يا شباب الأزهر والإسلام..
قرأت نبأ اجتماعكم في جريدة (