مقدمة

 

من حق الأخ كمال السنانيري علينا أن نذكره وأن ندعو له، وأن نقف عند شخصيته وقفات فيها التأمل والنظر، فلقد كان فذًّا في حياته، في عبادته، في صومه، في صبره، فبعد سجن استمر تسعة عشر عامًا، وبعد عذاب ومعاناة لم تشهد لها البشرية مثيلاً لا في القديم ولا في الحديث.. خرج الأخ محمد كمال الدين السنانيري، ليواصل جهاده في سبيل الله يواصل جهاده مع إخوانه الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ﴿فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين﴾ (آل عمران: من الآية 146).

خرج من هذه المحن والخطوب ودعوة الإسلام عنده أغلى من روحه فهي كيانه، ومصيرها مصيره، ومستقبلها مستقبله، لقد ربط نفسه بها، إنه- رحمه الله- من العنصر الكريم الأبيِّ الجادِّ، صاحب العزيمة القوية وليس من النوع الذي يعتذر عن مواصلة الطريق إذا رأى شدة العقبات أو قلة السالكين أو كثرة عواء الذئاب، بل يمضي ثابتًا مجاهدًا مهما كانت الظروف، وأخذ- رحمه الله- يجول في كل مكان يجمع الكيان ويوحِّد الصفّ، ويسعى حثيثًا في تقريب وجهات النظر بين الرجال العاملين في كل مكان، وتلك طبيعة الإيمان في المؤمن.

يقول الرافعي فيه وفي أمثاله:

    "إن لله عبادًا اختصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل، فإذا عرض أحدهم عن الشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد ونية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكن رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة".

وما أحسب الأخ كمال السنانيري إلا واحدًا من هؤلاء الربانيين، جاء إلى الدنيا في زمن فترت فيه النفوس، وقلَّ الأوفياء، وخمدت العزائم، فأثبت أن هذه الدعوة وَلُودٌ، وأن القلب الذي تذوَّق حلاوة الإيمان، واطمأنَّ إليها وثبت عليها هو الذي ينطلق صاحبه لتحقيق هذا الخير في واقع الناس، وهو الذي يبذل النفس والنفيس والجاه والمال والوقت في سبيل الحق الذي آمن به.
 

جوانب من حياته

 

هو السهل الممتنع، كان بسيطًا جدًّا في حياته، يصوم يومًا ويفطر يومًا هكذا باستمرار، وهو صوم نبي الله داود، كما أخبرنا المعصوم- صلى الله عليه وسلم- كان يأخذ نفسه بالعزيمة، ويشدِّد على نفسه كثير الحساب لها، بعيدًا عن أعين الناس.

كان يأكل ما يجد ويلبس ما يجد، ولا يتكلَّف ما لا يجد؛ اقتداءً برسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيتُه مرةً وأحدُ الإخوة يهاجمه ويعامله بعنف وهو ساكت لا يتكلَّم، ولما أردتُّ أن أردَّ عنه وأُسكِتَ هذا الذي تجاوز حدوده.. ثار عليَّ وأمرني بعدم الاعتراض على الأخ أو إسكاته، وبعد أن هدأ الأخ وقال كل ما عنده بدأ- رحمه الله- يشرح له المسألة ويبيِّن له حقيقة الموضوع، فإذا بالأخ وأنا معه يتعلَّم منه الدرس ويخرج من عنده وهو راضٍ هادئُ النفس، ولو تركني أردُّ عليه لتطوَّر الأمر أكثر، وضاعت الحقيقة.

خرج من السجن بعد ما يقرب من عشرين سنة، ليذهب في اليوم التالي إلى فضيلة الأستاذ ليقول له: إني كجندي جاهز للعمل لدعوتي من هذه اللحظة ومستعدٌّ للقيام بواجبي.

وُلد الشهيد في 11/3/1918م، وفي عام 1934م، حصل على الثانوية العامة، والتحق بوزارة الصحة في قسم مكافحة الملاريا.

في عام 1938م ترك العملَ في الصحة، وأراد الالتحاقَ بإحدى الجامعات الأمريكية لدراسة الصيدلة للعمل في صيدلية (الاستقلال) التي يملكها والده، إلا أن أحد علماء الدين أقنعه بعدم السفر إلى أمريكا بعد أن هيَّأ حقيبة السفر وباع أثاث بيته واتجه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة المتجهة إلى هناك.

في أثناء الحرب العالمية الثانية عمل في ميناء شبه حربي كانت تنزل فيه معداتُ جيوش الحلفاء وتمويناتهم، اسم هذا الميناء (أبو سلطان)، وما زال موجودًا حتى الآن.

بعد وفاة والده أصبح هو المعيل للأسرة التي كانت تضم أخاه الكبير محمد عز الدين الصيدلي "وهو الآن لواء متقاعد" وأخوين أصغر منه، هما محمد سعد الدين ومحمد شوقي "مقدم متقاعد" وأخواته البنات الثلاثة، الكبيرة تُوفيت رحمها الله.

انضمَّ إلى جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الأربعينيات، وكان ضمن المعتقلين عام 1954م، "اعتُقل في الشهر العاشر" وحَكمت عليه المحكمة التي أنشأها عبد الناصر بالسجن، الذي أمضى فيه كامل الحكم حتى أفرج عنه في يناير 1973م.

كان قد تزوَّج قبل اعتقاله ورُزق من زوجته بابنة تُوفيت بعد الحكم عليه بأشهر قليلة، أما زوجته فقد عمل أهلُها على تطليقها منه بعد الحكم عليه دون رضاها ودون رضاه، فقد اتفقت زوجتُه معه على انتظاره حتى يخرج من السجن، لكنها وافقت على الطلاق بعد ضغطِ أهلها وتخيير كمال الدين لها.

أصيبت أذنه بأذى من شدة التعذيب فنُقل إلى مستشفى قصر العيني، وكان يحمد الله بعد خروجه من السجن لأنه صار يسمع بأذنه المصابة أفضل مما يسمع بأذنه السليمة.

ومن شدة التعذيب الذي لاقاه الشهيد كمال في السجن أنَّ شقيقًا لزوجته أصيب بالذهول من فظائع التعذيب حتى جنَّ ونقل إلى مستشفى الأمراض العقلية.

في فترة سجنه عقَد قرانَه على شقيقة الشهيد سيد قطب "أمينة" وتزوَّج بها بعد خروجه من السجن في عام 1973م، ولم يُرزَق منها بأطفال.

ولم يكن يميل إلى الاستقرار في مكان واحد، وكان حبه لدعوته يجعله كثير التنقُّل والأسفار، ولهذا لم يقتنِ شقةً وأثاثَ بيت، يقيم أحيانًا عند شقيقته الكبرى الأرمل، التي كانت قلما تبقى في بيتها لزيارتها الأهلَ وأفرادَ الأسرة، وكانت شقة أخته قريبة من إدارة تحرير مجلة (الدعوة) في عابدين.

كان بطبعه لا يحب المظهرية، ويميل إلى البساطة، يرتدي القميص والبنطال، ويطلق لحيته، ويحب البسطاء من الناس، يعظهم ويجمعهم حول عقيدتهم نقيةً من البدع والشوائب.. حلو الحديث، يختار الصفوة من مجتمعه ومن مجالسه ليهيئهم ليكونوا دعاةَ خير ودعاةَ محبة، وكان يأسر الناس بحديثه، أُوكلت إليه عدةُ مهام في المركز العام سابقًا.

من يراه وينظر إليه لا يعطيه هذه السن الكبيرة، فقد كان دائم النشاط كثير الحيوية، يحرص على اجتماعه بكثير من الإخوة من مختلف الأقطار، ولا يدخر جهدًا ولا وقتًا ولا مالاً في سبيل الله ودعوته إليه.

من المواقف التي تشهد بتأثيره في الناس وحبهم له موقفه في مظاهرة الإخوان المسلمين في عابدين أيام كان هناك انشقاق بين أعضاء قيادة الثورة.

فقد كان كمال رحمه الله مسئولاً عن رعاية هذه المظاهرة الشعبية السلمية التي لم يكسر فيها شيء، ولم تتفرق المظاهرة حتى اتصل بالشهيد عبد القادر عودة الذي خرج إلى الشرفة، وأمر الإخوان المتظاهرين بالانصراف إلى منازلهم أو إلى المركز العام، ولعل هذا الموقف هو الذي جعل هيئة المحكمة تحكم عليه بالسجن المؤبد؛ إذ إنها أدركت تأثير هذا الإنسان الورع وحب إخوانه له.

كانت والدته وشقيقته الكبرى (رحمهما الله) تواظبان على حضور جلسات محاكمته في عام 1954م، وفي الجلسة الأولى لم تتعرف عليه والدته، لما أصابه من التعذيب، فسألت ابنتها أين أخوك؟! فقالت لها: هذا الذي في القفص فردَّت عليها الأم "لا يا بنتي أنا "عبيطة" حتى لا أعرفه" وقد ظهر وقد نحف جسمه حتى باتت ثيابه فضفاضةً عليه، وحلقوا شعر رأسه، وكسروا فكَّه حتى تغيَّر كلامه، وبقيت والدته في تلك الجلسة مصرةً على أن هذا ليس ابنها كمال.

وبعد الحكم عليه- وهو في المعتقل- أرادت منه والدته أن يكتب رسالة استعطاف إلى المحكمة، فسافرت إليه حين كان في سجن الواحات، وقد تجاوزت السبعين من عمرها، وصارت تستعطفه ليكتب مثل هذه الرسالة، فرفض رفضًا قاطعًا، وحذَّر من أن يكتب أحدٌ من أهله مثل هذه الرسالة، وقال لأمه: كيف يكون موقفي بين يدي الله إذا أرسلت هذه الرسالة وقبضت الليلة؟! أأموت على الشرك؟!
 

توحيده لقوى الجهاد الأفغاني ضد السوفيت

 

وبعد خروجه مباشرةً انطلق يعمل لدعوته ويجاهد في سبيل الله من أجل جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وأعطى جانبًا كبيرًا من وقته وجهده للجهاد الأفغاني، حتى إنه كان يذهب إلى بيشاور ويلتقي بالمجاهدين، ينصحهم ويحثهم على الوحدة، وعلى الصدق في القول والإخلاص في العمل، وكان من أعماله الطيبة أنه يستيقظ يوميًّا قبل الفجر بساعات وينزل إلى شوارع بيشاور يوقظ الناس لصلاة الفجر وينادي بهذا النداء الطيب يقول:

يا نائمًا مستغرقًا في المنام ... قمِ اذكر الحي الذي لا ينام

إلهك يدعوك لذكره ... وأنت مشغول بطيب المنام

لم يأت عليه يوم من الأيام ضاق بالقيود رغم بشاعتها أو ضاق بالسجون رغم شدتها.. بل كان نموذجًا في الصبر والاحتساب، كما لم يأتِ عليه يوم يشتكي فيه إلا إلى الله، هل صاحب هذه الصفات وهذه الأخلاق وهذه العبادة وهذا العمل للإسلام وهذا الصدق وهذا الوفاء لدعوة الله.. أهل صاحب هذه الخصال.. يموت منتحرًا؟! ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ (الكهف: من الآية 5).

إن الأخ الأستاذ الشهيد كمال السنانيري قمةٌ من قمم الإسلام، كان يعيش فوق ربوة عالية من الأخلاق والإيمان واليقين، تلحقه بأعظم الشهداء وأكرم الأوفياء لدينهم.. الحقيقة هي التي قالها المولى- تبارك وتعالى- في كتابه العزيز له ولأمثاله من العظماء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمن من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، يقول سبحانه: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِين* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين﴾ (آل عمران: 139- 141).

إلا أن دم الأخ الشهيد كمال السنانيري لعنةٌ على كل مَن شارك في استشهاده وعلى كل مَن ظلمه إلى يوم الدين.

وبعد استشهاده في الثامن من نوفمبر 1981م سُلمت جثته إلى ذويه، شريطةَ أن يوارَى التراب دون فتح عزاء، ولم يخرج في جنازته سوى أقاربه، شقيقيه الضابطين المحالَين على التقاعد، وابن أخيه، وأصهاره الأربعة، وثلاثة من أولاد أخته.

رحم الله الشهيد محمد كمال الدين السنانيري، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا
 

السنانيري.. جهاد رغم العذاب واستشهاد بعد الزواج!

(1336-1401هـ = 1918-1981م)
 

مولده ونشأته

وُلد في القاهرة في الحادي عشر من شهر مارس سنة 1918م في أسرة ميسورة، ودرس المراحل الابتدائية والثانوية، ثم التحق بوزارة الصحة قسم مكافحة الملاريا سنة 1934م، ثم استقال من وزارة الصحة سنة 1938م، وفكر في الالتحاق بإحدى الجامعات الأمريكية لدراسة الصيدلة للعمل في صيدلية (الاستقلال) التي يملكها والده؛ إلا أن أحد علماء الدين أقنعه بعدم السفر إلى أمريكا لما فيها من الموبقات، فعدل عن السفر بعد أن هيّأ حقيبة السفر واتجه إلى الإسكندرية لركوب الباخرة المتجهة إلى هناك، وذلك عام 1938م.
 

ارتباطه بالإخوان المسلمين

انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1941م، وكان من الوعي والإخلاص والحركة ما جعله يبرز ويتقدم الشباب ويكلف بعدد من المهمات، وكان السنانيري التلميذ الوفي لمبادئ شيخه وأستاذه الإمام الشهيد حسن البنا والذي وعى الدرس من أول مرة، وأدرك بأن طريق الدعوة محفوف بالمخاطر، مليء بالأشواك، لأنه الطريق إلى الجنة المحفوفة بالمكاره.

لقد كان يردد عن ظهر قلب ما كتبه الشيخ لتلامذته حيث قال: "سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة أمامكم وسيحاربكم العلماء الرسميون السائرون في ركاب السلطة، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم، وستستعين بذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المريضة والأيدي الممتدة إليها بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان، فتسجنون وتعتقلون وتشردون وتفتش بيوتكم، وتصادر أموالكم، وتثار ضدكم الاتهامات الظالمة، والافتراءات الكاذبة لتشويه سمعتكم والنيل من أقداركم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان، وعند ذلك فقط تكونون قد بدأتم تسلكون طريق أصحاب الدعوات...إلخ".

وكان الأستاذ السنانيري يُترجم هذا الكلام إلى واقع حي مشاهد، عاشه هو وإخوانه قرابة ربع قرن في غياهب السجون وظلمات الزنازين وتحت سياط الجلادين من عبيد السلطة وزبانيتها، فلم تلن لهم قناة، ولم ينطقوا ببنت شفة، بل كان ذكر الله على ألسنتهم دائمًا وهم يستشعرون معية الله ورعايته لهم، فيستعذبون العذاب ويلتذذون بالسياط، ويزداد قربهم من الله وشوقهم إلى لقائه.

يقول عنه الأخ عبد الله الطنطاوي في جريدة "اللواء" الأردنية: ".. لقد وجد فيه الإمام الشهيد (مُصعبًا) جديدًا يتفانى في خدمة الدعوة وأبنائها، ويسهر على فهمها واستيعاب أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والجهادية، فكان مناط الرجاء والقدوة العملية للشباب باستقامته وورعه وزهده وحركته وبذله من ذات نفسه وماله ووقته وجهده، وبتدينه، فقد كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويقوم الليل مصليًا وتاليًا القرآن وذاكرًا ربه بدموع سخيّة، وبتواضعه لإخوانه من أبناء مصر ومن الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية.

لقد تُوفي أبوه وترك له أسرة مؤلفة من ثلاثة أشقاء، وثلاث شقيقات، وأمه، فكان العائل لهم، وكان الأب الشفيق الرحيم، وإن كان بعضهم يكبره في السن، وهكذا أضيف إلى أعباء الدعوة عبء الأسرة، بل أعباؤها، والأخ كمال راضٍ بما قسم الله وقدره له، يسعى على أسرته ويحرث في حقول الدعوة وميادينها ويغرس الفسائل التي ستُؤتي أُكلها في قابل الأيام.

عمل من أجل فلسطين، كما عمل من أجل مصر، وقدم جهده في خدمة القضايا العربية والإسلامية فازدادت مهماته وازداد معها نشاطه وتضحياته حتى أنه لم يفكر في شراء بيت وأثاث، فهو كثير التنقل والأسفار، وإذا أراد أن يأوي إلى فراش سارع إلى بيت أخته الكبرى ليستريح لحظات ويأكل لقيمات، ثم يبادر، ما ترك أمسه ليومه، وما سيفعله في غده.
 

رسالة لعبد الناصر

 

في 28/2/1954م تحركت جماهير الشعب نحو قصر عابدين تنادي بالحريات التي طغى عليها وبغى ناصر وزبانيته، وكان لشهيدنا السنانيري دورٌ كبيرٌ في تنظيم هذه المظاهرة التي ضمَّت مئات الألوف بقيادة العالم الجليل الشهيد عبد القادر عودة، وانهمر الرصاص الآثم على المتظاهرين، وارتفعت أرواح الشهداء عن يمينه وعن شماله، وكمال السنانيري صامد يقود وينظم ويرفع قمصان الشهداء المضرجة بالدماء، يرفعها ويهتف ليرى الناس ويعلموا أي حكم هذا الذي يحكم مصر، وماذا يريد رجال الثورة بمصر وشعبها.

وكان كلاب النظام يرصدون القادة الفاعلين في قيادة تلك المظاهرات وكان فيهم ومنهم كمال السنانيري الذي قضت محكمة الشعب (مهزلة المحاكم التاريخية) قضت عليه بالحكم بالأشغال الشاقة مدة عشرين عامًا.

اعتقل كمال السنانيري في أكتوبر عام 1954م وأفرجوا عنه في يناير 1973م بالتمام والكمال، ولم يكن للسادات فضل في الإفراج عنه فقد أمضى المدة التي حكم عليه بها في سجون الواحات في وهج شمسها المحرقة، ولهيب هواء الصحراء، واشتعال الرمال بالأقدام الحافية.

بعد الحكم عليه ضغطوا على زوجته وأمه لعلهما تثنيانه عن عناده، ويكتب سطرين في تأييد عبد الناصر فأبى بشدة، وقال لأمه التي طلبت منه أن يكتب رسالة استعطاف وشفعت كلامها بدموع سبعينية، فاعتذر لها وقال بشموخ الداعية: "كيف يكون موقفي بين يدي الله إذا أَرْسلت هذه الرسالة ثم مت، هل ترضين يا أمي أن أموت على الشرك؟".

وخيّر زوجته بين البقاء زوجة له أو الطلاق، فالتقطت دمعاتها وقالت: "أبقى زوجة لك أيها الحبيب"، ولكن رجال المباحث الناصرية ضغطوا على أهلها فأجبروها على الطلاق منه.
 

اعتقاله وسجنه

اعتقل في أكتوبر سنة 1954م وحكمت عليه المحكمة التي أنشأها الطاغية عبد الناصر بالسجن الذي أمضى فيه كامل الحكم حتى أفرج عنه في يناير سنة 1973م، أصيبت أذنه بأذى شديد من التعذيب، فنقل إلى مستشفى القصر العيني، وكان يحمد الله بعد خروجه من السجن لأنه صار يسمع بأذنه المصابة أفضل مما يسمع بأذنه السليمة.

ومن شدة التعذيب الذي لاقاه في السجن كان معه شقيق زوجته التي طلقها وهو في السجن فأصيب بالذهول من فظائع التعذيب الذي لقيه السنانيري حتى أن هذا الشاب جُن وفقد عقله ونقل إلى مستشفى الأمراض العصبية.

وكانت والدة السنانيري وشقيقته الكبرى تواظبان على حضور جلسات المحاكمة الهزلية سنة 1954م، وفي الجلسة الأولى لم تتعرف الوالدة على ابنها كمال لما أصابه من التشويه نتيجة التعذيب، فسألت ابنتها: أين أخوك كمال؟ فقالت لها: إنه الذي في القفص، فردت عليها الأم: لا يا بنتي هو أنا (عبيطة) حتى لا أعرفه؟!

وكان السنانيري قد نحف جسمه حتى باتت ثيابه فضفاضة عليه وحلقوا شعر رأسه ولحيته وكسروا فكه حتى تغير كلامه، كما أن أذنه اليُسرى فقدت سمعها، وبقيت والدته في تلك الجلسة مصرة على أن هذا ليس ابنها كمال.
 

زواجه في السجن

وفي فترة سجنه الطويل عقد قرانه على الأخت الفاضلة (أمينة قطب) شقيقة الشهيد سيد قطب وتزوج بها بعد الخروج سنة 1973م ولم يرزق منها بأولاد، لأنها قد تجاوزت الخمسين من العمر.
 

زهده وورعه

كان بطبعه لا يحب المظاهر ويميل إلى البساطة، ويحب البسطاء من الناس ويهتم بوعظهم وتوجيههم وجمعهم على العقيدة الصحيحة النقية الصافية من البدع والخرافات، وكان زاهدًا في الحياة، يقوم الليل ويصوم الأيام الطويلة... وعاش في السجون لا يلبس إلا الثياب الخشنة.

ورجلٌ هذه حياته وهذا زهده لم يكن غريبًا أن يأبى ما يطلبه منه ضباط السجن وضباط المباحث، طوال مدة سجنه عشرين عامًا، من تأييد لنظام عبد الناصر، آخذًا بالعزائم معرضًا عن الرخص.
 

خروجه من السجن وجهاده

 

وبعد خروجه، كان وكأن السجن الذي جاوز العشرين عامًا قد زاده نقاء إلى نقائه وصفاء إلى صفائه وصلابة إلا صلابته، وكان حريصًا على جمع صفوف الإخوان في العالم كله.

وذهب كمال السنانيري لميدان الجهاد في أفغانستان حيث أعطاه جهده وطاقته، وبذل أقصى ما يستطيع لدعمه ورفده وإصلاح ذات البين بين قادته الذين أحبوه جميعًا ودانوا له بالأستاذية فلا يكادون يخالفون له أمرًا في وجوده بينهم.

وحين اعتُقل بعد عودته من أفغانستان، ظل العذاب يُصب عليه من زبانية السلطة؛ ليعرفوا دوره في الجهاد الأفغاني، ودور من معه، فاستعصى عليهم، ولم يخرجوا بشيء رغم الأيام والليالي المتوالية التي أمضوها وهم ينهالون عليه تقطيعًا وتمزيقًا، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة ولقي ربه شهيدًا من شهداء الحق والصدق إن شاء الله يوم 8/11/1981م.

وقد نعاه التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بقوله: "إن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ينعى للعالم الإسلامي الأخ المجاهد الشهيد محمد كمال الدين السنانيري أحد رواد الحركة الإسلامية في العالم، ومن جماعة الإخوان المسلمين الذين قبض عليهم السادات في أوائل سبتمبر سنة 1981م عقب عودته من واشنطن مباشرة، حيث زار أسياده في البيت الأبيض لتلقي الأوامر.

وكان رحمه الله في أيامه رهن التحقيق الذي أشرف عليه الجلاد (حسن أبو باشا) حين ودّع الحياة الدنيا أزهد ما يكون فيها، ليستقبل ريح الجنة أشوق ما يكون إليها.

لقد سقط الشهيد بين جلاَّديه وهم يحاولون انتزاع ما يرضيهم من الطعن في الجماعات الإسلامية، ولكنه استمر يقول: "إن السادات قد فتح قبره بيديه بتوقيعه معاهدة الذل (كامب ديفيد) التي تقضي بتسليم رقاب الشعب المصري المسلم لإسرائيل وأمريكا" (مجلة المجتمع 11/11/1981م).

كتب عنه الأستاذ صلاح شادي: "... عاش كمال السنانيري حياته في سجون عبد الناصر أكثر من تسع عشرة سنة، لا يلبس إلا ثياب السجن الخشنة.. وحتى الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن كان يرفضها لا لقلة من ماله، وإنما كان يأبى إلا أن يعيش متجردًا من كل ما يعتبره ضباط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا.. فآثر رحمه الله أن يتجرد من كل ما يمكن أن يحرم منه؛ ليملك من نفسه ما يعجز الغير أن يملكه منه، كان هذا مفتاح شخصيته الزاهدة المتجردة وكان دأبه على هذا السلوك موضع عجبنا وإعجابنا، فقد كنا نأخذ أنفسنا بالرفق لنستطيع أن نتحمل مشقة الطريق الطويل الذي قدر الله لنا أن نسلكه، أما هو فقد كانت نفسه أطوع لديه من بنانه، فما عاد يحس بمشقة تدعوه إلى الرفق بها" انتهى.
 

قصيدة زوجته

وقد رثته زوجته أمينة قطب في أكثر من قصيدة، وكانت لها قصيدة حزينة مؤثرة في ذكراه كل سنة بعد استشهاده، وكانت أولى تلك القصائد بعد استشهاده هي قولها:



ما عدت أنتظر الرجوع ولا مواعيد المساء

ما عدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء

ما عدت أنتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء

ما عدت أَرْقُب وقع خطوك مقبلاً بعد انتهاء

وأضيء نور السُلَّمِ المشتاق يسعد بارتقاء

ما عدت أهرع حين تقبل باسمًا رغم العناء

ويضيء بيتي بالتحيات المشعة بالبهاء

وتعيد تعداد الدقائق كيف وافانا المساء؟

وينام جفني مطمئنًا لا يؤرقه بلاء

ما عاد يطرق مسمعي في الصبح صوتك في دعاء

ما عاد يرهف مسمعي صوت المؤذن في الفضاء

وأسائل الدنيا: ألا من سامع مني نداء؟

أتراه ذاك الشوق للجنات أو حب السماء؟

أتراه ذاك الوعد عند الله؟ هل حان الوفاء؟

فمضيت كالمشتاق كالولهان حبًا للنداء؟

وهل التقيت هناك بالأحباب؟ ما لون اللقاء؟

في حضرة الديان في الفردوس في فيض العطاء؟

أبدار حق قد تجمعتم بأمن واحتماء؟

إن كان ذاك فمرحبًا بالموت مرحى بالدماء

ولسوف ألقاكم هناك وتختفي دار الشقاء

ولسوف ألقاكم أجل. وعد يصدقه الوفاء

ونثاب أيامًا قضيناها دموعًا وابتلاء

وسنحتمي بالخلد لا نخشى فراقًا أو فناء



رحم الله أستاذنا السنانيري رحمة واسعة، وألحقنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.