بعد ست سنوات على توقيعها، لم تعد مذكرة التفاهم البحرية بين ليبيا وتركيا مجرد وثيقة قانونية، بل تحولت إلى فخ استراتيجي متعدد الأوجه، وجدت مصر نفسها في قلبه بسبب سياسات نظام السيسي المرتبكة والمتناقضة في ليبيا .

 

فبعد سنوات من الدعم غير المحدود لمعسكر الشرق الليبي، تجد القاهرة اليوم أن حليفها الرئيسي (برلمان طبرق) أصبح ورقة تفاوض في يد اليونان، التي تستخدمه لتقويض الاتفاقية التي تهدد مصالح مصر البحرية بشكل مباشر .

 

هذا المشهد المعقد، الذي تجدد مع زيارة وفد برلماني ليبي لأثينا في ديسمبر 2025، يكشف عن فشل ذريع للسياسة المصرية التي راهنت على طرف واحد في الصراع الليبي، لتجد نفسها اليوم في ورطة حقيقية: إما الصمت على تآكل حدودها البحرية، أو مواجهة حليفها الذي صنعته، أو الدخول في تصعيد محفوف بالمخاطر مع تركيا .

 

اليونان تستغل حليف السيسي: برلمان الشرق الليبي ورقة ضغط تُعقّد موقف القاهرة

 

تمثل زيارة وفد مجلس النواب الليبي إلى أثينا، والتصريحات اليونانية الداعية صراحة لعدم المصادقة على مذكرة 2019، تحولاً خطيراً في اللعبة الإقليمية . لقد أدركت اليونان أن أضعف حلقة في الموقف الليبي-التركي هو الانقسام الداخلي، وأن برلمان الشرق، الذي اعتمد لسنوات على الدعم المصري، يمكن استخدامه كأداة لتعطيل الاتفاقية من الداخل .

 

ما لا تقوله القاهرة علناً هو أن هذا التحرك اليوناني يمثل إحراجاً كبيراً لنظام السيسي؛ فاليونان، التي تعتبر شريكاً استراتيجياً لمصر في ترسيم الحدود البحرية ومواجهة تركيا، تستخدم اليوم الحليف الذي رعته مصر لسنوات كورقة ضغط في معركتها الخاصة، دون تنسيق كافٍ أو مراعاة للمصالح المصرية المعقدة .

 

هذا الضغط اليوناني لم يؤدِ فقط إلى سجال مع تركيا، بل فجّر "حرب بيانات" داخل معسكر الشرق نفسه، مما يكشف عن هشاشة هذا المعسكر وتضارب مصالحه، وهو ما يقلل من قدرة القاهرة على توجيه قراراته أو الاعتماد عليه لحماية أمنها القومي . لقد تحول الحليف الاستراتيجي إلى عبء تكتيكي، وأصبحت مصر متفرجاً على لعبة تدور في فنائها الخلفي وتستخدم فيها أدواتها الخاصة ضد مصالحها.

 

تهديد مباشر للأمن القومي: حدود مصر البحرية في مهب الريح وسيادة مهددة

 

تكمن خطورة المذكرة التركية-الليبية بالنسبة لمصر في أنها لا تعيد رسم الخريطة البحرية بين أنقرة وطرابلس فحسب، بل تمس بشكل مباشر مناطق تعتبرها القاهرة جزءاً من منطقتها الاقتصادية الخالصة، وتهدد بتقويض كامل لاتفاقيات ترسيم الحدود التي أبرمتها مصر مع اليونان وقبرص، والتي شكلت أساس استراتيجيتها للطاقة في شرق المتوسط . إن أي تفعيل كامل لهذه المذكرة يعني عملياً تطويق المصالح البحرية المصرية من الغرب، وخلق واقع قانوني جديد يجعل أي مفاوضات مستقبلية لترسيم الحدود بين مصر وليبيا شبه مستحيلة .

 

يزيد من تعقيد الموقف أن نظام السيسي يجد نفسه في معادلة أمنية صفرية: فهو يخشى من تنامي النفوذ التركي على حدوده الغربية، لكنه في الوقت نفسه يتجنب أي تصعيد عسكري قد يؤدي إلى انفجار الوضع في ليبيا مجدداً، وهو ما سيكلفه ثمناً أمنياً باهظاً على طول حدوده البرية الممتدة . هذا المأزق يجعل الخيارات المصرية محدودة للغاية، ويضع أمنها القومي البحري والبري رهينة التوازنات الهشة داخل ليبيا والتحركات الإقليمية للقوى الأخرى.

 

شلل دبلوماسي وخيارات مُرة: القاهرة بين صمت مُكلف ومواجهة محفوفة بالمخاطر

 

في ظل هذا الوضع، تبدو الدبلوماسية المصرية في حالة من الشلل التام. فالقاهرة لا تستطيع أن تدين علناً تقارب حليفها (برلمان الشرق) مع اليونان، ولا يمكنها أن تدعم موقف طرابلس المتمسك بالاتفاقية مع تركيا . هذا التردد يترك مصر في موقف المراقب الذي يفقد أوراقه تدريجياً. السيناريوهات المطروحة للمرحلة المقبلة كلها تحمل أخباراً سيئة لنظام السيسي:

 

1.  تثبيت الأمر الواقع: يعني استمرار التهديد التركي-الليبي للمصالح البحرية المصرية، مع تآكل مستمر في نفوذ القاهرة داخل ليبيا .

 

2.  التصعيد القانوني الدولي: مسار طويل وغير مضمون النتائج، خاصة أن الجهة التي وقعت الاتفاقية (حكومة طرابلس) لا تزال تحظى بالاعتراف الدولي .

 

3.  تسوية تفاوضية: تتطلب حداً أدنى من التوافق الليبي الداخلي، وهو ما عملت سياسات نظام السيسي على تقويضه عبر دعم طرف ضد آخر لسنوات طويلة .

 

في المحصلة، لم تعد المذكرة مجرد نزاع بين تركيا واليونان، بل أصبحت شهادة على فشل سياسة مصرية راهنت على حل عسكري وأمني في ليبيا، وتجاهلت الحلول السياسية الجامعة. واليوم، تجد القاهرة نفسها تدفع ثمن هذا الرهان الخاسر، حيث أصبحت حدودها البحرية وأمنها القومي جزءاً من لعبة توازنات إقليمية لا تملك فيها سوى خيارات مُرة، وتضطر لإدارة أزمة هي أحد أبرز المساهمين في صنعها .