في قلب الصحراء الجنوبية، حيث تواصل آلة الدعاية الحكومية الترويج لمشروعات "توشكى" كرمز لنهضة مزعومة وشعارات براقة عن "حياة كريمة"، يقف مبنى الوحدة الصحية بقرية "توشكى شرق" كشاهد حي على زيف هذه الادعاءات. هذا المبنى الصغير، الذي يفترض به أن يكون ملاذاً آمناً للمرضى ومصدراً للشفاء، تحول بفضل سنوات من الإهمال الحكومي المتعمد إلى "مصيدة موت" تهدد حياة كل من يطأ عتبته، سواء كان مريضاً يبحث عن دواء أو طبيباً يحاول أداء واجبه وسط الأنقاض.

 

إن المشهد في توشكى يختصر مأساة الصعيد المنسي في عهد الانقلاب؛ حيث تُنفق المليارات على الخرسانات والكباري في العاصمة الإدارية، بينما تُترك البنية التحتية الصحية في القرى النائية لتتآكل حتى النخاع. الوحدة الصحية في توشكى ليست مجرد مبنى متهالك، بل هي جريمة مكتملة الأركان ترتكبها الدولة يومياً بحق مواطنين لا ذنب لهم سوى أنهم يعيشون بعيداً عن أضواء القاهرة، ليجدوا أنفسهم محاصرين بين مرض ينهش أجسادهم وسقف يوشك أن ينهار فوق رؤوسهم.

 

مبنى يلفظ أنفاسه.. العلاج تحت "مقصلة" الأسقف المنهارة

 

بمجرد الاقتراب من مبنى الوحدة، تتكشف ملامح الكارثة؛ فالتشققات العميقة تضرب الجدران وكأن زلزالاً قد مر من هنا، والأسقف المتآكلة تلفظ قطع الجبس المهترئة فوق رؤوس المترددين، في مشهد سريالي لا يمت للرعاية الصحية بصلة. الأبواب محطمة، والنوافذ مخلعة، وأرضيات الغرف متصدعة، ومع ذلك، لا يجد الأهالي مفراً من المخاطرة بحياتهم ودخول هذا "البيت الآيل للسقوط" للحصول على خدمة طبية أولية.

 

تنقل إحدى الممرضات، التي تعمل في هذا الجحيم منذ عشر سنوات، صورة الرعب اليومي قائلة: "ندخل الوحدة وأيدينا على قلوبنا، سقف غرفة الكشف يتساقط منه الجبس، والمطر يحول العيادات إلى برك مياه". هذه الشهادة تفضح تقاعس المسؤولين الذين يتركون الطواقم الطبية والمرضى يعملون في بيئة غير آدمية، متجاهلين أن الترميم ليس رفاهية بل ضرورة قصوى لحماية الأرواح. إن استمرار العمل في هذا المبنى المهدد بالانهيار يعكس استرخاصاً حكومياً مفزعاً لحياة المواطن المصري في الجنوب.

 

عجز طبي صارخ.. ومرضى يدفعون ثمن "الفقر الإجباري"

 

داخل ساحة الانتظار البائسة، يجلس المرضى على مقاعد حديدية صدئة، يحملون أوجاعهم وأوراقاً طبية بسيطة، بينما يغطون رؤوسهم بقطع قماش خوفاً من سقوط مخلفات السقف عليهم. المشهد يجسد قمة القهر؛ مواطنون يقطعون مسافات طويلة تصل إلى 40 كيلومتراً للوصول إلى أقرب مستشفى بديل، ليجدوا أنفسهم مضطرين لقبول العلاج في "وحدة الرعب" بتوشكى لعدم قدرة جيوبهم الخاوية على تحمل تكاليف العيادات الخاصة.

 

تقول "أم رحمة"، سيدة ستينية جاءت بحفيدها المحموم: "عارفة إن المكان خطر، بس أروح فين؟ مافيش دكتور تاني". هذه الكلمات تلخص مأساة غياب العدالة الصحية. فالوحدة تعاني من نقص حاد في الكوادر، حيث لا يوجد سوى طبيب واحد يتناوب في أيام محددة، وغرفة طوارئ خاوية من التجهيزات، وجهاز ضغط معطل منذ أسابيع. الطبيب الشاب بالوحدة يعترف بقلة الحيلة: "الإمكانيات ضعيفة جداً، وأخاف على المريض من الطريق عند تحويله للمستشفى العام". إنه نظام صحي "مشلول" يترك الطبيب والمريض يواجهان الموت عزلاً.

 

وعود زائفة وصمت حكومي يرقى لدرجة "التواطؤ"

 

رغم عشرات الشكاوى والاستغاثات التي رفعها أهالي توشكى لمديرية الصحة ومحافظة أسوان، إلا أن الرد الحكومي يظل محصوراً في دائرة "الصمت والتجاهل". لجان المعاينة تأتي وتذهب، وتسجل الملاحظات، ثم تعود الأمور إلى نقطة الصفر، وكأن هناك قراراً غير معلن بترك المبنى ينهار بمن فيه. يقول أحد شيوخ القرية بمرارة: "المبنى انتهى عمره الافتراضي، عايزين حل قبل الكارثة".

 

إن هذا التجاهل المستمر لمطالب ترميم أو إحلال الوحدة الصحية في منطقة حيوية مثل توشكى، يفضح زيف شعارات "الجمهورية الجديدة" التي لا ترى في الجنوب سوى مساحة للمشاريع الاستثمارية التي تدر أرباحاً للنظام، بينما يسقط الإنسان من حساباتها تماماً. إن صرخة أهالي توشكى اليوم هي إنذار أخير: أنقذوا ما تبقى من آدمية البشر قبل أن يتحول مبنى الوحدة الصحية من مكان للعلاج إلى مقبرة جماعية وشاهد أبدي على فشل وإهمال حكومة لا تقيم وزناً لحياة المصريين.