في مشهد يعيد تذكيرنا بالهوة السحيقة بين واقع المصريين المطحونين وبين الدعاية الجوفاء لنظام الانقلاب، شهدت قرية "الدير" بمركز إسنا في محافظة الأقصر كارثة انهيار ثلاثة منازل مأهولة بالسكان. لم يكن السبب زلزالاً أو كارثة طبيعية مفاجئة، بل كان بطل المشهد هو "النمل الأبيض" الذي نخر في صمت جدران وأسقف البيوت لسنوات، وسط تجاهل تام من مديرية الزراعة وأجهزة المحليات التي لا تتحرك إلا لجباية الضرائب أو هدم منازل الغلابة بدعوى المخالفة.
هذه الحادثة لا تمثل مجرد "انهيار إنشائي" لمبانٍ قديمة، بل هي انهيار كامل لمنظومة الدولة التي تدعي إنفاق المليارات على مبادرة "حياة كريمة". إن بقاء أهالي الصعيد في بيوت مشيدة من الطوب اللبن والتبن، عرضة لافتراس الحشرات والآفات، في وقت تُبنى فيه العواصم الجديدة بمليارات الدولارات المقترضة، هو الجريمة الحقيقية التي ترتكبها حكومة الانقلاب يومياً بحق ملايين المصريين الذين سقطوا من حسابات "الجمهورية الجديدة".
تضليل "الزراعة" ومحاولات غسل يد النظام من دماء الفقراء
بدلاً من تحمل المسؤولية وتقديم الاعتذار والتعويض للأهالي المنكوبين، خرج وكيل وزارة الزراعة بالأقصر بتصريحات مستفزة تعكس نهج النظام في الإنكار الممنهج. فبينما أكد شهود العيان والخبراء أن "النمل الأبيض" هو الذي فرغ جدران المنازل وأسقط أسقفها الخشبية، سارع المسؤول لنفي ذلك، زاعماً أن الحشرة لا تؤثر على الحوائط. هذا التضليل المتعمد يهدف بوضوح إلى قطع الطريق أمام أي مطالبات قانونية أو تعويضات مادية، وإلقاء اللوم بالكامل على "عوامل الزمن".
إن محاولة تصوير الكارثة على أنها نتيجة "تهالك المباني" هي وقاحة سياسية مكتملة الأركان؛ فالدولة التي تعجز عن مكافحة حشرة في قرية صغيرة، أو توفير بدائل سكنية آمنة لمواطنيها، هي دولة فاشلة وظيفياً. إن انتشار النمل الأبيض في 73 منزلاً بمركز إسنا -باعتراف الوزارة نفسها- كان يستوجب إعلان حالة الطوارئ البيئية، لكن نظام الانقلاب يفضل إنفاق الميزانيات على آلات القمع وتلميع صورة الجنرالات، تاركاً "سوس" الإهمال ينهش في بيوت الفقراء حتى تسقط فوق رؤوسهم.
أكذوبة "تطوير الريف" الموؤودة تحت أنقاض الأقصر
تأتي واقعة انهيار منازل الأقصر لتكشف العوار الفني والفساد المالي الذي يشوب مشاريع "تطوير الريف المصري". فأين كانت لجان المعاينة وأجهزة الرصد التي تتباها بها الحكومة؟ إن الحقيقة التي يحاول النظام إخفاءها هي أن هذه المشاريع ما هي إلا "واجهات تجميلية" للطرق الرئيسية والميادين، بينما تظل أعماق القرى في الصعيد تعاني من التهميش التاريخي. النمل الأبيض الذي أسقط بيوت "الدير" هو نفسه النمل الذي ينخر في مصداقية النظام، حيث يتم حقن التربة بالمبيدات "على الورق" فقط، بينما تذهب الميزانيات إلى جيوب المقاولين والوسطاء التابعين للأجهزة السيادية.
إن الصراع بين رواية "الزراعة" التي تنفي، ورواية معهد بحوث وقاية النباتات التي تؤكد قدرة النمل على هدم البيوت عبر تفريغ حبيبات الطين، يوضح حجم التخبط داخل مؤسسات الدولة. هذا التخبط يدفع ثمنه المواطن البسيط الذي فقد مأواه في لحظة، ليجد نفسه في مواجهة العراء، بينما يكتفي محافظ الأقصر بتوجيهات "ورقية" للفحص والمعاينة بعد فوات الأوان. إنها سياسة "إدارة الكوارث بالبيانات" التي يتقنها نظام الانقلاب للهروب من استحقاقات المواطنة الأساسية.
الصعيد بين مطرقة الجبال وسندان التجاهل المتعمد
تبرير ظهور النمل الأبيض بـ "الطبيعة الجبلية" للمنطقة هو عذر أقبح من ذنب؛ فإذا كانت الدولة تعلم طبيعة المنطقة وتاريخها مع هذه الآفة، فلماذا لم يتم اتخاذ تدابير استباقية؟ الحقيقة هي أن الصعيد يمثل "الخاصرة الرخوة" في أجندة الانقلاب، حيث لا يُنظر إليه إلا كخزان انتخابي يتم حشده بالترهيب أو التزييف، أو كمصدر للعمالة الرخيصة. غياب الصيانة الدورية، وعدم وجود بروتوكولات حقيقية لحماية المباني الأثرية والقديمة من الآفات، يعكس عقلية "تصفية الأطراف" التي ينتهجها النظام لصالح "المركز" المتخم بالمشاريع الاستعراضية.
إن انهيار منازل الأقصر هو إنذار أخير لما قد يحدث في مئات القرى الأخرى التي تنهشها الأرضة والإهمال. فإذا لم يتحرك الشعب لانتزاع حقوقه، فإن "سوس" الانقلاب لن يترك بيتاً إلا وسيسقطه. إن الصرخة التي أطلقها أهالي قرية "الدير" ليست فقط بسبب فقدان الجدران، بل هي صرخة ضد نظام يرى في الإنسان المصري عبئاً، وفي حماية حياته ترفاً لا يستحق الإنفاق. سيبقى ركام منازل الأقصر شاهداً على حقبة سوداء، فضل فيها الحاكم بناء السجون والقصور على تأمين سقف يحمي رعاياه من حشرة صغيرة كشفت عورة "إمبراطورية" من ورق.

