في صباح الحادي والعشرين من ديسمبر، ومع الدقائق الأولى لشروق شمس يوم الأحد، اتجهت أنظار العالم ومحبي الحضارة المصرية القديمة صوب محافظتي الأقصر والفيوم، ترقباً لظاهرة فلكية فريدة تتكرر سنوياً إيذاناً ببدء الانقلاب الشتوي.

 

وبينما نجحت هندسة الفراعنة وحساباتهم الفلكية الدقيقة في قهر الزمن داخل أروقة معابد الكرنك، حيث اخترقت الأشعة الذهبية ظلمة "قدس الأقداس" في مشهد مهيب، وقفت الطبيعة حائلاً دون اكتمال المشهد ذاته في معبد قصر قارون بالفيوم، حيث حجبت الغيوم كثيفة هذا اللقاء السماوي المرتقب، ليرسم هذا الصباح لوحة متناقضة بين سطوع في الجنوب واحتجاب في الوسط.

 

تأتي هذه الظواهر لتؤكد مجدداً على العبقرية الفلكية والمعمارية للمصري القديم، الذي لم يكتفِ بتشييد الجدران والأعمدة، بل طوع حركة الأجرام السماوية لتخدم عقيدته الدينية، جاعلاً من معابده مراصد فلكية دقيقة تحدد المواقيت والفصول، في حدث بات اليوم ركيزة أساسية في أجندة السياحة الثقافية المصرية.

 

الكرنك.. كرنفال الضوء في حضرة "سيد الآلهة"

 

في قلب مدينة الأقصر، وعاصمة مصر القديمة "طيبة"، تحولت ساحات معابد الكرنك منذ ساعات الفجر الأولى إلى ساحة احتفالية عالمية. وسط حشود غفيرة من السائحين المصريين والأجانب الذين توافدوا لتوثيق اللحظة، تسللت أشعة الشمس بدقة متناهية لتتعامد على مقصورة "قدس الأقداس" بمعبد آمون رع.

 

المشهد لم يكن فلكياً فحسب، بل اكتسى بصبغة تراثية وسياحية مميزة، حيث اصطف فتيان وفتيات يرتدون الأزياء الفرعونية التقليدية على جانبي الممر الرئيسي للمعبد، في محاكاة لمواكب الاحتفالات القديمة، مستقبلين الزوار بالورود والألحان، مما أضفى أجواءً من السحر والغموض على الحدث.

 

ويعد هذا التعامد إعلاناً فلكياً رسمياً عن بداية فصل الشتاء، ودليلاً حياً على التقدم العلمي المذهل الذي بلغه المصريون القدماء. تاريخ هذا الصرح العظيم يمتد بجذوره إلى عصر الدولة الوسطى (نحو 2000 قبل الميلاد)، وظل في حالة توسع وبناء مستمر حتى نهاية العصر الفرعوني مع الأسرة الثلاثين. تبلغ مساحة مجمع الكرنك الشاسعة نحو 247 فداناً، يستحوذ معبد "آمون رع" وحده على 46 فداناً منها، مما يجعله أكبر دار للعبادة شيدت في تاريخ البشرية، حيث كان كل ملك يضيف صرحاً أو مسلة تقرباً للآلهة ورغبة في تخليد اسمه، ليصبح الكرنك اليوم سجلاً حجرياً يحكي تاريخ مصر.

 

الفيوم.. الطبيعة تعاند "قصر قارون" وتحجب المعجزة

 

على النقيض من الأجواء المشمسة في الجنوب، سادت حالة من الترقب المشوب بخيبة الأمل في محافظة الفيوم، وتحديداً داخل معبد قصر قارون. الظاهرة التي ينتظرها المئات سنوياً لم تكتمل هذا العام، حيث لعبت الغيوم الكثيفة دور البطولة السلبي، وحجبت أشعة الشمس عن الوصول إلى قدس أقداس المعبد في الموعد المحدد.

 

وفي تصريحات صحفية، أوضح سيد الشورة، مدير عام آثار الفيوم السابق، تفاصيل ما جرى، مشيراً إلى أن الفترة الزمنية المعتادة لرصد التعامد تبلغ نحو 25 دقيقة، تبدأ عادة في الساعة 6:45 صباحاً. ولكن هذا العام، لم تسمح السحب المتراكمة سوى بظهور شعاع خفيف وباهت خلال الدقائق الخمس الأخيرة فقط، وهو ما حال دون اكتمال الظاهرة بشكلها الهندسي البديع الذي اعتاد الزوار رؤيته.

 

وأشار الشورة إلى أن هذه الواقعة ليست الأولى من نوعها، فهذه هي المرة الثانية التي تفشل فيها الطبيعة في مجاراة الهندسة منذ بدء الاحتفال الرسمي بالظاهرة عام 2012، حيث سبق وتعذرت الرؤية في عام 2017 للسبب المناخي ذاته. ويُذكر أن معبد قصر قارون يعود للعصر اليوناني الروماني، ويتميز بتصميمه الفريد الذي يضم نحو 100 حجرة كانت تستخدم قديماً لتخزين الغلال، مما يعكس الأهمية الاقتصادية والزراعية لإقليم الفيوم في تلك الحقبة.

 

رسائل الأجداد وإنعاش السياحة الثقافية

 

بين نجاح التعامد في الأقصر وتعذره في الفيوم، تظل القيمة الحقيقية لهذه الأحداث في قدرتها على جذب أنظار العالم نحو مصر. تأتي هذه الفعاليات في توقيت حيوي لقطاع السياحة، تزامناً مع ذروة الموسم السياحي الشتوي، وفي ظل اهتمام عالمي متزايد بالآثار المصرية عقب الافتتاح التجريبي والترقب للافتتاح الرسمي للمتحف المصري الكبير، الذي يعد أيقونة ثقافية جديدة تطل على أهرامات الجيزة وتضم أكثر من 50 ألف قطعة أثرية.

 

إن استمرار الاحتفاء بهذه الظواهر الفلكية وتسليط الضوء عليها إعلامياً يساهم في تنويع المنتج السياحي المصري، لينتقل من مجرد زيارة الأماكن الأثرية إلى معايشة أحداث حية تمزج بين العلم، التاريخ، وسحر الطبيعة، مما يعزز مكانة مصر كواجهة سياحية فريدة تمتلك ما لا يمتلكه غيرها من شواهد الحضارة الإنسانية الأولى.