قال مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، إن "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية: سياسات داعمة للنمو والتوظيف"، التي أصدرتها حكومة الانقلاب في مصر في سبتمبر الماضي، وترسم رؤية شاملة للتنمية في البلاد خلال العقد المقبل ما هي إلا إعادة صياغة لنهج صندوق النقد الدولي في الإصلاح الاقتصادي المصري، والذي تسترشد به منذ عام 2016.
يأتي هذا وسط تزايد الشكوك بين المسؤولين والمعلقين الإعلاميين حول الحاجة إلى برنامج آخر من صندوق النقد الدولي لإنعاش الاقتصاد المصري المتعثر.
كما تصاعد النقاش حول إمكانية شقّ مسار مستقل، بعد عقد من الاعتماد على الصندوق والخضوع لإملاءاته، الأمر الذي جعل مصر ثالث أكبر متلقٍ للقروض منه في العالم، بعد الأرجنتين وأوكرانيا.
وفق التقرير، فإنه منذ عام 2016، وافقت مصر على أربعة برامج قروض متتالية من صندوق النقد الدولي، تُشكل مجتمعةً إطارًا لسياسات تقشفية واسعة النطاق، تشمل تعويم العملة المصرية، وخفض الدعم والإنفاق العام.
وأشار إلى أنه بالتزامن مع ديناميكيات سياسية واقتصادية أخرى، كانت العواقب وخيمة على المجتمع المصري: فقد ارتفعت نسبة الفقر من 27.8 بالمائة عام 2015 إلى 33 بالمائة على الأقل عام 2021، بينما اتسعت فجوة عدم المساواة في الثروة والدخل.
وسيطر 10 بالمائة من السكان على ثلثي ثروة مصر ونصف الدخل القومي، في حين لا يملك النصف الأفقر سوى 4.2 بالمائة من الثروة ويحصل على 17 بالمائة من الدخل.
وفي ظل هذه الأزمة، ذكر التقرير أن "السردية الوطنية" انحرفت عن خطاب الوظائف اللائقة والرعاية الاجتماعية الشاملة، متسترةً وراء نبرة قومية مقبولة. يربط عنوان الوثيقة بين التوظيف والنمو، الذي تصوره كغاية نهائية، متجاهلةً الاستدامة والمساواة والعدالة التوزيعية.
وفي ظل هذه الرؤية، قال إنه يتم اختزال التنمية إلى تدقيق مالي يقيس النجاح من خلال مؤشرات العجز والفائض، بدلاً من تحسين نوعية حياة المواطنين المصريين.
الهيمنة الفكرية لصندوق النقد الدولي
وفيما ذكر التقرير أن الوثيقة تزيد عن 500 صفحة وعلى الرغم من أنها لا تذكر صندوق النقد الدولي بشكل مباشر، لكنه أوضح أن بصمات المقرض العالمي واضحة في مجالين رئيسين على الأقل: تقليل بصمة الدولة في الاقتصاد لصالح القطاع الخاص، وجعل الانضباط المالي الإطار الأساسي للسياسة الاقتصادية.
ويستمر البرنامج الجديد على النهج نفسه الذي ميز العقد الماضي: التركيز على النمو كثيف رأس المال المصحوب بخلق فرص عمل محدودة. ولكن إذا كان الماضي مؤشرًا، فلن يُحدث هذا تحولاً في هيكل الاقتصاد ولن يخلق المزيد من الوظائف الرسمية.
ولفت إلى أن السردية الوطنية تتبنى خطابًا نيوليبراليًا يُعطي الأولوية لتعظيم دور القطاع الخاص، دون وضع ضمانات لضمان العدالة أو الشفافية في هذا التحول.
وفي العديد من فصول الوثيقة، يُكرر شعار "القطاع الخاص هو المحرك الرئيس للتنمية الاقتصادية"، ما اعتبره التقرير يُعيد التأكيد على الخطاب الذي روّج له صندوق النقد الدولي منذ مؤتمر القاهرة عام 2018، حين صوّر التدخل الحكومي - بما في ذلك عبر المؤسسات العسكرية - كعائق أمام الاستثمار. في الواقع، يُساهم القطاع الخاص بالفعل بأكبر حصة من الناتج والعمالة، ولكن ضمن سوق غير تنافسية تُهيمن عليها احتكارات مُربحة للغاية تُوفر فرص عمل قليلة.
لذا، رأى أن خطاب تحرير القطاع الخاص لا يركز على توسيع المنافسة بقدر ما يركز على إعادة تموضع النخب داخل الاقتصاد. وبينما اركز السردية الوطنية النقاش الأساسي على انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي، فإنها تتجاهل أي نقاش حول ضمان عدم انتقال الاحتكارات ببساطة من القطاع العام إلى القطاع الخاص، أو حول الآليات اللازمة لمنع السلطة المطلقة للشركات الكبيرة ذات النفوذ السياسي.
التحول الأخضر
وفي حبن تُقدّم السرد ية الوطنية على دعم النمو "الأخضر"، لكنها في الواقع تُكرّس نموذجًا للاستثمار المُلوِّث. فبينما أوقفت الحكومة دعم الطاقة للأسر دون أي حوار عام أو دراسة لتأثير هذا القرار على مستويات المعيشة، استمرّ الدعم في التدفق إلى حفنة من الشركات الكبرى في قطاعات التكرير والأسمدة والإسمنت والحديد والمنسوجات والسياحة والبناء - باختصار، القطاعات الاقتصادية الأكثر استهلاكًا للطاقة وتلويثًا للبيئة.
وخلص التقرير إلى أن هذا التوزيع غير العادل من الأسر إلى الشركات يُبقي فاتورة الدعم مرتفعة ويُشوّه حوافز الاستثمار، مُفضّلاً الأنشطة كثيفة رأس المال والطاقة على الصناعات الإنتاجية كثيفة العمالة.
علاوة على ذلك، قال إن هذه الوثيقة تغفل معالجة المشكلات الهيكلية في بيئة الاستثمار المصرية، بما في ذلك كثرة الإعفاءات الضريبية، وغياب قانون استثمار موحد، واستمرار تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج. وبإغفالها ربط حوافز الاستثمار تخلق فرص عمل لائقة، فإنها تُديم البطالة، وعدم استقرار الوظائف، ونمو الوظائف غير الرسمية ذات الأجور المتدنية.
وفي أبرز مثال على ذلك، تُصوّر الرواية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس كنموذج لجذب الاستثمارات الأجنبية عبر الإعفاءات الضريبية والجمركية. إلا أن معظم المشاريع في المنطقة - بما فيها إنتاج الهيدروجين الأخضر وتصنيع مكونات المركبات - تقع على ساحل البحر الأحمر، مما يُهدد ما تبقى من بيئة بحرية كانت غنية في السابق، والتي أُنهكت بالفعل بفعل السياحة الجماعية، وفق التقرير. وهكذا، فإن "التحول" ليس إلا وسيلة "لتبييض" المشاريع الملوثة التي تستخدم شعار الاستدامة لتحقيق أرباح لرأس المال الدولي.
الانضباط المالي والعدالة الاجتماعية
وفقًا للتقرير، فإن السردية الوطنية تعيد إنتاج نفس المنطق المالي الجامد الذي يروج له صندوق النقد الدولي، والذي يختزل المالية العامة إلى إجراءات محاسبية ضيقة ويتجاهل دورها الأساسي والدستوري كأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
وتركز الوثيقة على خفض الدين العام، وتحقيق فائض أولي، وزيادة طفيفة في الإيرادات من خلال تحسين تحصيل الضرائب، دون أي توجه نحو فرض ضرائب تصاعدية أو إصلاح هيكلي للنظام الضريبي. وعلى الرغم من أن نسبة الإيرادات الضريبية إلى الناتج المحلي الإجمالي في مصر تقل عن 13 بالمائة، وهي من أدنى النسب في العالم بالنسبة لدولة متوسطة الدخل، إلا أن الوثيقة لا تقدم أي خطة لمعالجة هذا الخلل الهيكلي أو لتفعيل الدور التوزيعي للضرائب.
علاوة على ذلك، تعتمد مصر مؤشرات كمية كأهداف نهائية، مثل تحقيق فائض أولي بنسبة 3.3 بالمائة، والحفاظ على الدين الحكومي عند 81 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، والحفاظ على متوسط أجل استحقاق الدين عند 4.5 سنوات.
إلا أن هذا التركيز على الأرقام يحجب حقيقة أن الدين المصري لم ينخفض فعليًا في السنوات الأخيرة، بل تم التحايل عليه من خلال الاقتراض خارج الميزانية، بموافقة ضمنية من صندوق النقد الدولي. ونتيجة لذلك، تضاعف الدين الخارجي الفعلي للبلاد ثلاث مرات منذ عام 2015، بينما لا تتضمن الميزانية السنوية سوى نصفه، وفقًا لأحدث تقرير صادر عن البنك المركزي.
واعتمدت الحكومة أيضًا على أسعار فائدة مرتفعة لجذب الاستثمارات الأجنبية عبر أدوات دين قصيرة الأجل، مما جعل ماليتها هشة وعرضة للانهيار عند سحب هذه الأموال. في الواقع، أدت ثلاث موجات من تدفقات الاستثمار الخارجة خلال العقد الماضي إلى أزمات متكررة في ميزان المدفوعات وانخفاضات حادة في قيمة العملة.
وبحلول منتصف عام 2025، بلغت هذه التدفقات الخارجة أكثر من 40 مليار دولار ، أي ما يعادل أكثر من أربعة أضعاف إيرادات قناة السويس في ذروتها، مما يعكس اقتصادًا قائمًا على الديون قصيرة الأجل بدلاً من الاستثمار الإنتاجي.
الأمر الأكثر إثارة للقلق كا يرى التقرير، هو أن المشكلة الحقيقية اليوم لا تكمن في حجم العجز المالي، بل في كيفية تخصيصه. فبدلاً من تمويل الإنفاق الاجتماعي أو تحفيز فرص العمل اللائقة،
يُوجَّه هذا العجز الآن بشكل رئيس نحو خدمة ديون مصر. وقد ارتفعت مدفوعات الفائدة إلى 87 بالمائة من الإيرادات الضريبية ، بينما تقلصت الحصص المخصصة للأجور والتعليم والصحة. وهذا يقودنا إلى استنتاج مفاده أن "الضبط المالي" ليس إلا شعارًا، أو أسوأ من ذلك، واقعًا مفروضًا على المواطن العادي وحده، لا سيما وأن عجز الموازنة العامة في مصر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لم ينخفض إلا قليلاً عن المستوى الذي بلغه قبل بدء برنامج صندوق النقد الدولي الأول. وهذا يعني أن الحكومة أنفقت مليارات الدولارات المقترضة، دون أدنى أثر على العدالة الاجتماعية.
بصيص أمل؟
ينتهي التقرير إلى أنه: "باختصار، فإنّ السردية الوطنية، بدلاً من أن تشير إلى قطيعة مع سياسات صندوق النقد الدولي، تؤكد استمرارها. فهو لا تزال أسيرة لمنظور ضيق يتجاهل أزمات عدم المساواة والتهرب الضريبي والظلم في توزيع العبء الضريبي".
وأشار إلى أن الحكومة لا تزال تعتمد بشكل كامل على السياسة النقدية لتحقيق الاستقرار، دون إجراء أي إصلاحات حقيقية في السياسة المالية. وفي بصيص أمل، فتحت وزارة التخطيط باب النقاش العام حول الوثيقة حتى نهاية نوفمبر، متلقيةً التعليقات عبر موقعها الإلكتروني وفي اجتماعات مع خبراء وطنيين.
وأوضح التقرير أن هذا الحوار، إذا ما أُجري بجدية واستقلالية، قد يتيح فرصة لإعادة النظر في نموذج التنمية في مصر، وسد الفجوة بين تحديد التحديات وصياغة حلول بديلة. ولا تزال نتائج هذه العملية قيد الانتظار.
وعلى الرغم من نبرتها المحافظة، فإنّ السردية الوطنية تُقرّ ضمنيًا بنقائص النهج الحالي. ولا زال هناك أمل في أن يصبح النقاش الدائر منصةً لإعادة تعريف التنمية على أسس جديدة تُوازن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستدامة البيئية.
https://mecouncil.org/blog_posts/egypts-new-development-plan-perpetuates-imf-policies/

