في وضح النهار، وفي قلب مخيم المغازي الصامد وسط قطاع غزة، سقط المقدم في جهاز الأمن الداخلي أحمد زمزم، برصاص الغدر الذي أطلقه مسلحون في جريمة منظمة تحمل بصمات "العمالة" والتآمر الخارجي.

 

هذا الاغتيال الجبان ليس مجرد حادث أمني عابر، بل هو حلقة جديدة في مسلسل طويل من محاولات ضرب الجبهة الداخلية وتفكيك منظومة الصمود في غزة، وهو مخطط تشير كل الدلائل إلى أنه يُدار من "غرفة عمليات" قذرة، يتقاطع فيها الدور الاستخباري للاحتلال الإسرائيلي مع "المال السياسي" لدولة الإمارات العربية المتحدة التي باتت تلعب دور "حصان طروادة" لتمرير الأجندات الصهيونية في المنطقة.

 

إن استهداف ضابط أمن داخلي، معروف بدوره في ملاحقة شبكات الفوضى، في هذا التوقيت بالذات، يمثل رسالة دموية مفادها أن الحرب على غزة لم تعد تقتصر على القصف الجوي، بل انتقلت إلى مرحلة "الاغتيالات بالوكالة" عبر أدوات رخيصة وعصابات مسلحة، في محاولة يائسة لكسر إرادة المقاومة من الداخل بعد الفشل في كسرها من الخارج.

 

سياق الجريمة: "مثلث الشر" الذي يستهدف غزة

 

لا يمكن فهم جريمة اغتيال المقدم أحمد زمزم إلا بوضعها في إطارها الصحيح، وهو "مثلث الشر" الذي يتربص بغزة ومقاومتها: الاحتلال الإسرائيلي الذي يسعى لفرض واقع أمني جديد، والولايات المتحدة التي توفر الغطاء السياسي والدعم العسكري، وأدوات إقليمية، على رأسها الإمارات، التي تلعب دور "الممول" و"المحرض" لتغذية الفوضى الداخلية.

 

على مدار السنوات الماضية، تطورت أساليب الحرب على غزة؛ فبعد أن أثبتت الحروب العسكرية المباشرة فشلها في تحقيق أهداف الاحتلال، تحول التركيز إلى استراتيجية "التفكيك من الداخل". هذه الاستراتيجية تعتمد على استغلال الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي يفرضها الحصار، لتجنيد شبكات إجرامية وعصابات مسلحة تعمل تحت غطاء "الخلافات العائلية" أو "الجريمة المنظمة"، لكنها في حقيقتها تنفذ أجندات أمنية وسياسية تخدم الاحتلال. المعلومات الأمنية المتداولة في غزة تشير بأصابع الاتهام بشكل واضح إلى دور إماراتي متصاعد في تمويل هذه العصابات، وتزويدها بالمال والسلاح، بهدف خلق حالة من "الفلتان الأمني" الذي يصور القطاع على أنه منطقة خارجة عن السيطرة، مما يبرر أي عدوان إسرائيلي مستقبلي أو يمهد لفرض ترتيبات "اليوم التالي" التي تخدم مصالح تل أبيب وأبو ظبي.

 

توقيت الاغتيال.. رسائل الدم بين "تل أبيب" و"أبو ظبي"

 

إن توقيت الجريمة يحمل دلالات خطيرة ولا يمكن فصله عن سياق الأحداث الميدانية والسياسية. فقبل يوم واحد فقط من اغتيال "زمزم"، أعلن جيش الاحتلال عن استهدافه لقيادي بارز في حركة حماس، في خرق فاضح لاتفاق وقف إطلاق النار الساري. هذا التزامن بين الاستهداف الإسرائيلي المباشر من الجو، والاغتيال الداخلي "بالوكالة" على الأرض، يثير تساؤلات جدية حول وجود تنسيق عملياتي مباشر أو غير مباشر بين الطرفين.

 

الرسالة تبدو واضحة ومزدوجة: الضغط العسكري المباشر على قادة المقاومة من الخارج، بالتوازي مع إرباك الجبهة الداخلية عبر اغتيال الكوادر الأمنية المسؤولة عن حفظ الاستقرار. الهدف من هذه الاستراتيجية هو وضع المقاومة بين فكي كماشة، وإشغالها في معارك داخلية تستنزف طاقتها وتشتت تركيزها عن مواجهة العدو الحقيقي. إن اختيار ضابط في جهاز الأمن الداخلي، وهو الجهاز الذي يمثل خط الدفاع الأول ضد محاولات الاختراق والتخريب، هو رسالة بأن لا أحد في مأمن، في محاولة لكسر معنويات رجال الأمن وزرع بذور الشك والفتنة داخل المجتمع.

 

الأمن الداخلي في مواجهة مخطط "الفوضى الخلاقة"

 

رغم خطورة الحادث والألم الذي خلفه، تؤكد مصادر أمنية في غزة أن هذه الجريمة، مهما كانت قاسية، لن تنجح في تحقيق أهدافها، بل على العكس، ستعطي الأجهزة الأمنية دافعاً أكبر وضوءاً أخضر لملاحقة هذه الشبكات وتفكيكها بلا هوادة. فالأجهزة الأمنية في غزة، وعلى رأسها جهاز الأمن الداخلي، اكتسبت خبرة طويلة في التعامل مع مثل هذه المخططات، ونجحت مراراً في إفشال محاولات الاختراق وزرع الفوضى.

 

الرهان الخاسر الذي تعول عليه الجهات المعادية هو خلق شرخ بين الأجهزة الأمنية وبين الحاضنة الشعبية للمقاومة. لكن تجارب السنوات الماضية أثبتت أن الوعي المجتمعي في غزة بخطورة هذه المخططات وبطبيعة "الأدوات الرخيصة" التي تُستخدم فيها، يشكل دائماً صمام الأمان وخط الدفاع الأول في إفشالها. إن التحرك السريع للأجهزة الأمنية وإلقاء القبض على أحد المشتبه بهم فور وقوع الجريمة هو مؤشر على يقظة المنظومة الأمنية وقدرتها على احتواء الموقف.

 

في المحصلة، اغتيال المقدم أحمد زمزم ليس مجرد حادث جنائي، بل هو حلقة دموية في صراع أوسع وأكثر تعقيداً، تُستخدم فيه "العصابات المسلحة" كأدوات قذرة لخدمة أجندات الاحتلال الإسرائيلي، بتمويل وتوجيه إقليمي باتت بصماته واضحة. وبينما تتواصل التحقيقات لكشف كل خيوط هذه المؤامرة، يبقى الرهان الحقيقي على قدرة غزة، بأجهزتها الأمنية ووعي شعبها، على إفشال هذا المخطط الخبيث مرة أخرى، وتحويل دماء شهدائها إلى وقود لمزيد من الصمود واليقظة.