في مواجهة جديدة بين صوت الصحافة والسلطة التنفيذية، خرج نقيب الصحفيين خالد البلشي ليرد على تصريحات رئيس الوزراء بشأن "مواجهة الشائعات" و"معاقبة مروجي الأخبار الكاذبة"، مؤكدًا أن مجلس الوزراء اختار الطريق العكسي تمامًا. البلشي قال بوضوح إن العقوبة الحقيقية للخبر الكاذب ليست الحبس ولا الغرامات ولا المنع من النشر، بل إتاحة المعلومات وتصحيحها بشفافية. هذه الكلمات تبدو بديهية في أي دولة تحترم مواطنيها، لكنها في مصر تتحول إلى موقف "جريء" لأن حكومة الانقلاب قررت أن تتعامل مع المجتمع باعتباره متهمًا، ومع الصحافة باعتبارها خصمًا يجب تحجيمه والسيطرة عليه.
تصريحات نقيب الصحفيين تفضح جوهر سياسة النظام الحالي في ملف الإعلام: سلطة تغلق باب المعلومات، ثم تتهم الناس بالجهل وسماع الشائعات؛ تمنع الصحفي من الوصول للحقيقة، ثم تحاكمه إذا حاول أن يبحث عنها. وبينما يتحدث رئيس الوزراء عن "حرب على الشائعات"، يضع البلشي إصبعه على الجرح: الشائعة تولد في غياب المعلومة، والسلطة التي تخاف من كشف الحقائق هي أول من يصنع بيئة خصبة للأخبار الكاذبة.
بدل الشفافية: قوانين قمع ومحاكمات
رد نقيب الصحفيين جاء ليكشف التناقض الفاضح في خطاب الحكومة. فبدلًا من أن تلتزم السلطة بنصوص الدستور الذي ينص على حق المواطنين في الحصول على المعلومات، وحرية الصحافة، وشفافية مؤسسات الدولة، لجأت حكومة الانقلاب إلى مسار آخر: تشديد العقوبات، محاصرة المواقع والصحف، توسيع تعريف "الخبر الكاذب" ليشمل أي رواية لا ترضي السلطة.
في ظل هذا المناخ، يصبح الصحفي مهددًا في كل لحظة: رقم في بلاغ، أو متهم في قضية، أو اسم على قوائم المنع من السفر، لمجرد أنه نشر ما تراه الحكومة "مخالفًا للرواية الرسمية". بدل أن تقدّم الدولة بيانات دقيقة وفي وقتها عن الأزمات الاقتصادية، أو عن الكوارث، أو عن المشاريع التي تُنفق عليها مليارات الجنيهات، تختار الطريق الأسهل: اتهام من يسأل، ومعاقبة من يشكك، وتشويه من ينتقد.
تصريح البلشي بأن "عقوبة الخبر الكاذب هي إتاحة المعلومات وتصحيحه" ينسف هذا المنطق الاستبدادي من أساسه، لأنه يذكّر بأن الأصل هو حق المجتمع في المعرفة، لا حق السلطة في الإخفاء.
حكومة الانقلاب تخاف من الحقيقة
أخطر ما في خطاب مجلس الوزراء أنه يتعامل مع المجتمع بعقلية الطوارئ الدائمة: كل رأي مختلف "خطر"، وكل معلومة غير رسمية "تهديد للأمن القومي"، وكل صحفي يحاول أن يؤدي واجبه "مشبوه" أو "يخدم أجندات". هذه العقلية لا تحارب الشائعات، بل تغذيها؛ لأنها تخلق فجوة واسعة بين ما يعيشه الناس في واقعهم، وبين ما تردده الحكومة في بياناتها وتصريحاتها التجميلية.
في زمن السوشيال ميديا وتدفق المعلومات من كل اتجاه، لا يمكن لأي سلطة أن تحاصر الحقيقة بالكامل، لكن يمكنها أن تجعل ثمن قول الحقيقة باهظًا. وهذا ما تفعله حكومة الانقلاب: تضغط على الصحفيين، تغلق منافذ الإعلام الحر، تقنن الحجب والمنع، ثم تتساءل لماذا تنتشر "الشائعات"!
عندما ينبه نقيب الصحفيين إلى أن الطريق الصحيح هو الشفافية، فهو عمليًا يتهم الحكومة بأنها اختارت عمدًا الطريق الخطأ: طريق التعتيم، ثم القمع، ثم تخويف المجتمع باسم "مواجهة الأكاذيب".
حق المجتمع في المعرفة لا منّة من السلطة
جوهر المعركة هنا ليس بين نقيب الصحفيين ورئيس الوزراء، بل بين مفهومين للدولة: دولة ترى نفسها مالكة للحقيقة، لا يحق لأحد الاقتراب منها أو مساءلتها، ودولة حديثة تعترف أن الأصل أن يعرف المواطن كيف تُدار ثرواته، وأين تُصرف الضرائب، وما حقيقة الديون، وما يجري في الكواليس عند كل قرار مصيري.
تصريحات البلشي تعيد تذكير الجميع بأن حق الحصول على المعلومات ليس ترفًا ولا ميزة تمنحها السلطة حين تشاء وتسحبها حين تشاء، بل هو صمام أمان ضد الفساد، وضد الفشل، وضد تضليل الرأي العام. كلما حجبت الحكومة الأرقام الحقيقية عن الدين، والفقر، والبطالة، والمشروعات الخاسرة، وكلما أخفت تفاصيل الاتفاقات والقروض، ازدادت مسؤوليتها عن كل شائعة ستخرج من فراغ المعلومات.
حكومة الانقلاب التي تتحدث عن "استقرار" لا يمكن أن تبني استقرارًا حقيقيًا فوق أرضية من الكتمان والتضليل الإعلامي؛ لأن المجتمع الذي يُمنع من أن يعرف، سيتجه بالضرورة للبحث عما يقال في الكواليس والهوامش، وسيتعامل مع كل رواية بديلة باعتبارها أقرب للحقيقة من الرواية الرسمية.
بين نقابة تحاول الدفاع وسلطة تريد الإخضاع
موقف نقيب الصحفيين، رغم محدودية صلاحيات النقابة وقدرة السلطة على حصارها، يمثل صوتًا مهمًا في لحظة تحاول فيها الحكومة أن تُحمل الصحفيين مسؤولية كل ما يجري في البلد من غضب واحتقان. السلطة تريد من الإعلام أن يكون مجرد "بوق" يصفق، بينما يحاول البلشي أن يذكرها بأن وظيفة الصحافة هي العكس تمامًا: رقابة، مساءلة، وكشف للحقائق حتى لو أزعجت الحاكم.
المعادلة التي تفرضها حكومة الانقلاب على الإعلام واضحة: إما تكرر ما نقول، أو نصنفك ناشرًا للأكاذيب ومروجًا للشائعات. في وجه هذه المعادلة، يصبح تصريح نقيب الصحفيين دفاعًا عن الحد الأدنى من شرف المهنة وحق المجتمع في أن يسمع غير الصوت الرسمي. وتبقى الحقيقة البسيطة التي تحاول السلطة تجاهلها: لا قانون ولا سجن ولا تهديد يستطيع أن يهزم حقيقة موثقة، ولا يمكن لأي نظام أن يصمد طويلًا وهو يحارب حرية الصحافة وحق الناس في المعرفة.

