في مشهد يلخّص حقيقة ما تسميه حكومة الانقلاب "عرسًا ديمقراطيًا"، كشفت أجهزة الأمن في محافظة المنيا عن ضبط 6 حالات رشاوى انتخابية خلال ساعات، حيث تم القبض على 4 أشخاص في مركز شرطة المنيا وسيدتين في مركز دير مواس، وبحوزتهم مبالغ مالية كانوا يستعدون لتوزيعها على الناخبين لشراء أصواتهم لصالح مرشحين معينين.

 

هذه الفضيحة المتكررة في كل موسم انتخابي ليست مجرد مخالفات فردية يمكن التستر عليها، بل هي اعتراف صريح بأن ما يجري ليس انتخابات حقيقية، بل عملية شراء منظمة للأصوات في ظل غياب تام لأي تنافس سياسي حقيقي أو خيارات حقيقية أمام المواطنين.
عندما تتحول صناديق الاقتراع إلى "سوق نخاسة" يُباع فيها صوت المواطن بالجنيه، وعندما يتحول الناخب إلى "بضاعة" تُشترى بالمال، فهذا يعني أن السلطة نفسها لا تؤمن بشرعية ما تفعله، ولا تثق في قدرة مرشحيها على الفوز دون تزوير منظم وشراء مباشر للأصوات. ما يحدث في المنيا وفي عشرات المحافظات الأخرى ليس فسادًا انتخابيًا عاديًا، بل منظومة متكاملة لتزييف إرادة الشعب وتحويل "الديمقراطية" إلى واجهة مضحكة لنظام يخاف من أي تصويت حر حقيقي.

 

شراء الأصوات: اعتراف بغياب الشرعية

 

ضبط 6 حالات رشاوى في يوم واحد وفي محافظة واحدة يطرح سؤالًا واضحًا: كم حالة لم تُضبط؟ وكم مرشحًا يدفع الآن مبالغ طائلة لشراء الأصوات دون أن تصل إليه يد الأمن؟ ولماذا أصلاً يلجأ المرشحون إلى شراء الأصوات إذا كانت الانتخابات نزيهة والمنافسة عادلة والناخب حر في اختياره؟

 

الجواب بسيط: لأن الجميع يعرف أن هذه الانتخابات مجرد "ديكور" سياسي، والمطلوب ليس فوز الأفضل أو الأكثر كفاءة، بل فوز من تريده السلطة أو من يملك المال الكافي لشراء المقاعد. في هذا المناخ، يصبح شراء الأصوات ممارسة "عادية"، لأن الجميع يعلم أن اللعبة مفبركة من الأساس، وأن البرلمان الذي سيخرج من هذه الانتخابات سيكون مجرد ديكور آخر لتمرير القوانين التي تريدها السلطة التنفيذية، دون أي رقابة حقيقية أو معارضة فعلية.

 

حين يشتري المرشح صوت الناخب بـ200 أو 500 جنيه، فهو عمليًا يقول له: "أنت لا تساوي شيئًا، وصوتك مجرد سلعة"، وحين تسكت السلطة أو تضبط فقط حالات محدودة للتغطية الإعلامية، فهي تقول للجميع: "نحن نعرف أن اللعبة قذرة، لكننا نحتاج إلى مظهر خارجي يوهم العالم بأن هناك ديمقراطية".

 

الداخلية تضبط القليل وتغض الطرف عن الكثير

 

البيانات الرسمية تتحدث عن "يقظة" وزارة الداخلية و"تطبيق القانون بحزم" وضبط المخالفات، لكن الواقع يقول عكس ذلك تمامًا. لو كانت الداخلية جادة في منع شراء الأصوات، لما تكررت الظاهرة في كل انتخابات منذ 2011، ولما أصبح شراء الأصوات "سرًا علنيًا" يعرفه الجميع ويمارسه كثيرون دون خوف حقيقي من العقاب.

 

ضبط 6 حالات في المنيا و4 حالات في الجيزة وحالات متفرقة في محافظات أخرى يشبه "ضبط عينات" للاستهلاك الإعلامي، بينما الممارسة نفسها تجري على نطاق واسع في مئات اللجان وعشرات الدوائر. الداخلية تعرف جيدًا من يشتري الأصوات، ومن يوزع الأموال، ومن يجمّع البطاقات، لكنها تختار أن تضبط فقط ما يكفي للقول إنها "تطبق القانون"، بينما تترك الباقي يمر دون محاسبة.

 

الأخطر من ذلك، أن جزءًا كبيرًا من شراء الأصوات يتم بعلم وتنسيق من جهات رسمية أو شبه رسمية، لضمان فوز مرشحين بعينهم، خاصة في الدوائر التي تخشى السلطة أن يفوز فيها مرشح "غير مرغوب". في هذه الحالة، تتحول الداخلية من "حامية القانون" إلى طرف في اللعبة القذرة، تضبط خصوم السلطة وتغض الطرف عن حلفائها.

 

برلمان بلا صلاحيات وانتخابات بلا منافسة

 

السؤال الأهم: لماذا كل هذا الجهد والمال لشراء مقاعد في برلمان لا يملك صلاحيات حقيقية؟ لماذا ينفق المرشحون الملايين على شراء الأصوات من أجل عضوية في مجلس نواب لا يحاسب الحكومة ولا يملك سلطة حقيقية على القرار؟

 

الجواب أن البرلمان في عهد الانقلاب تحول إلى "شركة مقاولات سياسية"؛ المقعد النيابي يعني نفوذًا، ويعني علاقات، ويعني حصانة، ويعني فرصًا للثراء السريع عبر المناقصات والصفقات والوساطات. لذلك يدفع المرشحون الأموال الطائلة لشراء المقاعد، ليس لأنهم يريدون خدمة الشعب أو ممارسة دورهم التشريعي، بل لأنهم يعرفون أن المقعد "استثمار مربح" سيعود عليهم بأضعاف ما أنفقوه.

 

في هذا السياق، تصبح فضيحة شراء الأصوات في المنيا مجرد غيض من فيض، لأنها تكشف فقط الجزء المرئي من فساد انتخابي أعمق بكثير، فساد يبدأ من تحديد من يحق له الترشح ومن يُمنع، ومن يحصل على التغطية الإعلامية ومن يُحجب، ومن يُسمح له بالحملة الدعائية ومن يُضيق عليه، وصولاً إلى شراء الأصوات المباشر في يوم الاقتراع.

 

ديمقراطية الواجهة وحقيقة الاستبداد

 

حكومة الانقلاب تصر على تقديم نفسها أمام العالم كـ"نظام ديمقراطي" يحترم التعددية ويجري انتخابات دورية، لكن فضائح شراء الأصوات تكشف الوجه الحقيقي لهذه "الديمقراطية": مسرحية هزلية، لا يؤمن بها حتى من يخرجونها، ولا يثق فيها حتى من يشاركون فيها.

 

المواطن الذي يبيع صوته بـ200 جنيه لا يفعل ذلك لأنه لا يفهم قيمة الديمقراطية، بل لأنه يعرف جيدًا أن صوته لن يغير شيئًا، وأن البرلمان الذي سيخرج من هذه الانتخابات لن يحل مشاكله، وأن الـ200 جنيه التي سيحصل عليها اليوم أفضل من وهم "المشاركة السياسية" الذي تبيعه له السلطة.

 

ضبط 6 رشاوى في المنيا ليس إنجازًا أمنيًا، بل فضيحة سياسية تؤكد أن ما يجري ليس انتخابات، بل عملية تزوير منظمة لإرادة شعب يُمنع من الاختيار الحر، ويُجبر على قبول مرشحين لا يمثلونه، في برلمان لا يخدمه، تحت حكم لا يحترمه.