في كل شتاء، تتحول الأمطار في قطاع غزة من نعمة إلى كارثة إنسانية جديدة على رؤوس مئات الآلاف من النازحين، المحاصرين في خيام مهترئة لا تقي برداً ولا تمنع مطراً.
ومع أول منخفض جوي هذا العام، دقت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" ناقوس الخطر، محذّرة من تفاقم معاناة النازحين، وتفشي الأمراض، وتحول المخيمات إلى برك من الوحل والمياه الملوثة، في ظل حصار خانق وتأخر إعادة الإعمار بعد سنوات من العدوان الإسرائيلي المتكرر على القطاع.
الأمطار الغزيرة التي هطلت خلال الأيام الماضية لم تجرف فقط الأتربة والمياه، بل كشفت مجدداً هشاشة الأوضاع المعيشية، وانهيار البنية التحتية، وعجز المجتمع الدولي عن حماية أبسط حقوق أهالي غزة: بيت آمن، ومأوى يحفظ الكرامة، ونظام صحي قادر على مواجهة الأزمات.
أمطار تتحول إلى كارثة إنسانية
الأونروا أعربت بوضوح عن استيائها الشديد من تدهور الأوضاع في مخيمات النزوح بفعل المنخفض الجوي، مؤكدة أن الأمطار في قطاع غزة "تحمل مصاعب جديدة وتفاقم الأوضاع المعيشية المتردية وتجعلها أكثر خطورة".
الخيام الهشة التي نُصبت كحل "مؤقت" منذ عامين بعد عدوان إسرائيلي دمّر البيوت والبنية الأساسية، أصبحت اليوم عاجزة تماماً عن الصمود أمام الأمطار والرياح. المياه تغمر الأرضيات، تتلف ما تبقى من ممتلكات بسيطة، وتحاصر العائلات بين البرد والطين، في مشهد لا يليق بالبشر.
في كثير من المخيمات، تحولت الأزقة إلى مستنقعات، وصارت الحركة شبه مستحيلة، خاصة للأطفال والمرضى وكبار السن. الأغطية والفرش تغرق بالماء، والنازحون يقضون الليل في محاولة حماية ما يمكن حمايته من البلل، بدل أن يجدوا في بيوتهم المفقودة دفئاً وأماناً.
مخاوف من تفشي الأمراض والأوبئة
تحذير الأونروا لم يقتصر على وصف المعاناة اليومية، بل امتد إلى دق ناقوس الخطر الصحي. الازدحام الشديد داخل المخيمات، انعدام شروط النظافة، تهالك الخيام، اختلاط مياه الأمطار بمياه الصرف ومصادر التلوث؛ كلها عوامل تجعل من المنخفض الجوي بيئة مثالية لانتشار الأمراض والأوبئة.
الوكالة نبهت إلى أن عشرات الآلاف من النازحين باتوا في مواجهة مباشرة مع ظروف مناخية قاسية، دون أي حماية حقيقية. ومع محدودية الإمكانات الطبية، والضغط على المراكز الصحية، وخنق القطاع بالموانع الإسرائيلية أمام دخول الإمدادات، فإن أي موجة أمراض معوية أو تنفسية أو جلدية قد تتحول بسرعة إلى أزمة صحية واسعة النطاق.
ما تحذر منه الأونروا اليوم ليس مجرد "احتمال"، بل امتداد لواقع قائم. سنوات الحصار والعدوان أضعفت المنظومة الصحية في غزة إلى حدّ كبير، ومع كل أزمة مناخية أو عسكرية يدفع المدنيون الثمن من صحتهم وحياتهم.
مأوى مفقود وإعمار متعثر
قصة الأرملة غالية العطار من بيت لاهيا تختصر مأساة آلاف العائلات. أول عاصفة شتوية كفيلة بتحويل بيت متضرر إلى مكان غير صالح للعيش: ماء يتسرب من السقف المعدني، وجدران مشققة، ودِلاء موزعة في كل زاوية لمحاولة جمع الأمطار المتدفقة إلى الداخل.
غالية تقول إنها لم ترَ ليلة أسوأ من تلك، بينما ترفع هي وأبناؤها الأغطية والفرش المبلولة على الحبال لتجف بعد ليلة كاملة من المطر داخل المنزل لا خارجه. بيتها واحد من عشرات الآلاف التي تضررت في عدوان مايو 2021 الذي استمر 11 يوماً، ومئات البيوت دُمرت بالكامل، لكن جهود إعادة الإعمار الحقيقية لم تبدأ حتى الآن بالوتيرة اللازمة.
بيت لاهيا، كغيرها من مناطق غزة القريبة من الحدود، تعرضت لقصف مكثف دمّر المنازل وقطع الأشجار وأتلف المزارع، بينما تواصل إسرائيل ادعاء استهداف "أهداف عسكرية فقط". أرقام الأمم المتحدة تكذب الرواية الرسمية: أكثر من 250 شهيداً في غزة، أكثر من نصفهم من المدنيين، مقابل 13 قتيلاً فقط في الجانب الإسرائيلي.
حصار يمنع المساعدة وشتاء بلا رحمة
الأونروا أكدت أن هذه المعاناة يمكن تفاديها أو على الأقل تخفيفها إذا تدفّقت المساعدات الإنسانية دون عوائق، خاصة الإمدادات الطبية ومواد الإيواء المناسبة التي تتيح للعائلات مواجهة برد الشتاء بحد أدنى من الأمان والكرامة.
لكن الواقع أن إدخال مواد البناء، وتجهيزات المأوى، والمستلزمات الطبية يمر عبر بوابة الحصار الإسرائيلي، وما بين التعطيل والاشتراطات والقيود تبقى مئات الآلاف من العائلات معلّقة بين السماء والأرض، لا تستطيع العودة لمنازلها المدمرة، ولا تملك القدرة على ترميمها أو حتى استبدال خيامها البالية.
المنظمات المحلية تبذل ما في وسعها، توزع أغطية ومواد إسعافية، لكن حجم الاحتياج يفوق بكثير ما هو متاح. مع كل منخفض جوي، يتكرر المشهد ذاته: نداءات استغاثة، ووعود بالدعم، وواقع لا يتغير، بينما يتحول الشتاء في غزة إلى كابوس موسمي يتكرر عاماً بعد عام على سكان محاصرين بين عدوان لم يتوقف وحصار لم يُرفع.
نداء مفتوح قبل تفجر الكارثة
مع دخول فصل الشتاء بقسوته، يصبح التدخل العاجل ضرورة لا تحتمل التأجيل. يحتاج أهالي غزة إلى ما هو أكثر من بيانات الشجب والتعاطف: ممرات آمنة للمساعدات، ضغط دولي جاد لرفع القيود عن الإعمار، توفير خيام ومساكن مؤقتة لائقة، دعم حقيقي للقطاع الصحي، وخطط طويلة الأمد لإعادة بناء ما دمرته الحروب.
حتى ذلك الحين، سيظل كل منخفض جوي في غزة ليس مجرد حدثاً طبيعياً، بل اختباراً أخلاقياً للمجتمع الدولي، وشاهداً جديداً على معاناة شعب يدفع ثمن الحصار والاحتلال والعجز العالمي عن وقف هذه المأساة المستمرة.

