في حلقة جديدة من مسلسل التخلي عن أصول الدولة الاستراتيجية، وافق مجلس وزراء الانقلاب برئاسة مصطفى مدبولي على استكمال إجراءات طرح محطات توليد الكهرباء من طاقة الرياح في منطقة "جبل الزيت" بقدرة 580 ميغاواط، ضمن برنامج الطروحات الحكومية.

 

خطوة تُسوّق لها السلطة باعتبارها "توسيعاً لقاعدة الملكية" و"الاستغلال الأمثل لأصول الدولة"، بينما حقيقتها أنها بيع منظم لمرافق حيوية تم إنشاؤها بمال الشعب وتحت لافتة "الطاقة الجديدة والمتجددة"، ليجري تسليمها تدريجياً لرأس المال المحلي المتحالف مع السلطة وللمستثمر الأجنبي الباحث عن أرباح مضمونة في سوق محتكر.

 

في وقت يعاني فيه المصريون من فواتير كهرباء ملتهبة، وانقطاعات متكررة، وسياسات رفع الدعم بلا رحمة، تواصل حكومة الانقلاب تصدير خطاب "الإصلاح" و"جذب الاستثمار" كغطاء سياسي لتفكيك ما تبقى من القطاع العام وخصخصة قطاعات حيوية مثل الطاقة، لصالح شبكة محدودة من المستفيدين في الداخل وأطراف مالية في الخارج.

 

بيع الطاقة الاستراتيجية تحت شعار "الطروحات"

 

البيان الرسمي الصادر عن مجلس الوزراء يتحدث كعادته عن "الاستغلال الأمثل لأصول الدولة"، و"تطويرها"، و"زيادة مساهمة القطاع الخاص"، و"تعزيز الشفافية والحوكمة". لكن خلف هذه العبارات المنمقة، يمر قرار بالغ الخطورة: طرح محطات "كهرباء جبل الزيت" التابعة لهيئة تنمية واستخدام الطاقة الجديدة والمتجددة، وهي من أكبر مشروعات الرياح في مصر والمنطقة، بسعة إجمالية 580 ميغاواط، موزعة على ثلاث محطات رئيسية.

 

هذه المحطات لم تُنشأ في يوم وليلة، بل كلفت مليارات من المال العام، وجرى الترويج لها طويلاً كمنجز وطني في ملف الطاقة المتجددة، وبالتعاون مع الحكومة الإسبانية. اليوم، تتحول هذه "المفخرة" إلى سلعة في سوق الطروحات، بدل أن تكون قاعدة يبني عليها المصريون استقلالهم الطاقي وتحولهم نحو مصادر مستدامة بأيدٍ وطنية وإدارة عامة خاضعة للمحاسبة.

 

من ملكية الشعب إلى عقود الاستثمار

 

الخطاب الرسمي يتحدث عن "توسيع قاعدة ملكية الشركات" و"زيادة جاذبية السوق المصرية". لكن السؤال الجوهري: توسع لمصلحة من؟ هل سيتم تمكين المواطن المصري العادي من امتلاك حصة حقيقية في هذه الأصول؟ أم أن الأمر سينحصر، كما جرت العادة، في مؤسسات مالية وبنوك وصناديق استثمار محلية وخارجية، بينما يُترك الشعب يتفرج على ما كان يوماً ملكاً عاماً يتحول إلى أرقام في محافظ استثمارية مغلقة؟

 

واقع مصر في السنوات الأخيرة يجيب بوضوح: كل موجات "الطروحات" و"الشراكة مع القطاع الخاص" لم تعنِ إلا مزيداً من تركّز الثروة، وارتفاعاً في الأسعار، وتحويل الدولة من مالك ومدير ومخطِّط إلى مجرد جابي ضرائب ورسوم لسد عجز الموازنة وخدمة الديون المتفاقمة. طرح "جبل الزيت" ليس خروجاً عن هذا النمط، بل تأكيد صارخ عليه.

 

طاقة الرياح.. ربح مضمون يُفرَّط فيه

 

محطات الرياح في "جبل الزيت" تمثل واحداً من أنجح نماذج الاستثمار في الطاقة المتجددة:

  • قدرة إجمالية 580 ميغاواط موزعة على ثلاث محطات (240 + 220 + 120 ميغاواط).
  • تمويل وتنفيذ بمشاركة دولية وخبرات فنية متراكمة.
  • مصدر طاقة نظيف ترتفع أهميته عالمياً مع التوجه للحد من الانبعاثات.

 

أي مستثمر يعرف أنه يدخل إلى مشروع جاهز، قائم، مربح، في قطاع حيوي يمثل مستقبل الطاقة في العالم. لماذا لا تستفيد الدولة المصرية بنفسها من هذا الربح طويل الأجل؟ لماذا تتخلى عن أصول قائمة لتوفر سيولة قصيرة الأجل؟ الجواب بسيط وقاسٍ: لأن حكومة الانقلاب أدارت الاقتصاد بمنطق القروض والمشروعات الاستعراضية والديون، حتى باتت تبحث عن أي أصل يمكن بيعه أو رهنه لسد فجوات عاجلة، دون اعتبار حقيقي لحقوق الأجيال القادمة.

 

"إصلاحات هيكلية" أم تفكيك ممنهج؟

 

البيان الحكومي يربط طرح "جبل الزيت" ببرنامج أوسع يشمل بيع حصص في شركات كبرى بقطاعات الطاقة والخدمات اللوجستية والصناعة والاتصالات، بالتوازي مع "الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية". لكن ما يُسمى "إصلاحاً" في قاموس المؤسسات المالية الدولية يعني عملياً:

 

 

  • تقليص دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي.
  • بيع الأصول العامة.
  • رفع الدعم وترك السوق للمضاربات والاحتكار.
  • تحويل الخدمات الأساسية إلى مصدر ربح للشركات.

 

بهذا المعنى، طرح محطات "جبل الزيت" ليس قراراً فنياً ولا اقتصادياً صرفاً، بل قرار سياسي بامتياز، يعكس انحيازاً كاملاً لمنطق النيوليبرالية المتوحشة، في بلد يعيش أكثر من ثلث سكانه تحت خط الفقر، ويُسحق طبقته الوسطى بين الغلاء والضرائب وغياب شبكات أمان حقيقية.

 

شعب محروم من الكهرباء.. وسلطة تبيع محطاتها

 

المفارقة المؤلمة أن قرار طرح محطات "جبل الزيت" يأتي في ظل شكاوى متصاعدة من المواطنين من ارتفاع فواتير الكهرباء، وتكرار الانقطاعات، وحديث رسمي متواصل عن كلفة الإنتاج وضرورة "ترشيد الاستهلاك". إذا كانت الدولة تعاني مالياً كما تقول، فلماذا تتخلى عن أصول مدرّة للدخل في قطاع حيوي كالكهرباء؟ وإذا كانت تهدف إلى "تعظيم الاستفادة"، فلماذا لا تضمن على الأقل أن يكون لأي طرح سقف واضح للأسعار وحماية للمستهلك المصري من جشع المستثمر؟

 

الحقيقة أن المواطن لا يجد مكاناً في معادلة اتخاذ القرار. لا استفتاء شعبياً، لا نقاش برلمانياً حراً، لا شفافية في تفاصيل العقود، لا رؤية منشورة للعوائد المتوقعة وكيفية استخدامها. كل ما يراه المصريون هو مسار متصاعد لبيع الجسور والطرق والموانئ والشركات ومحطات الطاقة.. والآن "جبل الزيت" الذي كان يُقدّم يوماً كنموذج لمستقبل واعد في الطاقة النظيفة.

 

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحاً: كم محطة كهرباء، وكم مشروع طاقة متجددة، وكم أصل استراتيجي يجب أن يُطرح للبيع، قبل أن يدرك المصريون أن المعركة لم تعد حول رفع الأسعار فقط، بل حول بقاء ما تبقى من ملكية الدولة والمجتمع في مواجهة حكومة انقلاب حولت أصول البلد إلى قائمة انتظار في بورصة الطروحات؟