بعد نحو أسبوعين من الهدوء النسبي الذي ساد أروقة شركة مياه الشرب والصرف الصحي بالقاهرة، عادت نيران الغضب العمالي لتشتعل من جديد، معلنة فشل سياسة "المسكنات" التي اعتمدتها الإدارة لاحتواء الأزمة. ففي خطوة تصعيدية، نظم العمال اليوم السبت وقفة احتجاجية حاشدة بمقر شبكة مياه الحي العاشر، كسروا فيها حاجز الصمت وعبروا عن نفاد صبرهم تجاه ما وصفوه بـ "سياسة التسويف والمماطلة" التي تنتهجها الشركة القابضة وإدارة "مياه القاهرة".
هذه العودة القوية للاحتجاجات ليست مجرد تحرك فئوي، بل هي صرخة ألم من آلاف العمال الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بين مطرقة الديون وسندان التجاهل الإداري، في مؤسسة تدار بمنطق "السادة والعبيد"، حيث ينعم المستشارون بالملايين، بينما يتسول العاملون حقوقهم الأساسية.
انهيار الثقة: لماذا عادت الاحتجاجات؟
لم تكن عودة الاحتجاجات مفاجئة لأحد، بل كانت –على حد تعبير أحد العمال– "نتيجة طبيعية" لغياب الإرادة الحقيقية لدى الإدارة لحل الأزمة. ففي 24 نوفمبر الماضي، بادر العمال بتعليق حراكهم الذي استمر 13 يومًا وامتد لـ 30 موقعًا، كبادرة حسن نية لإعطاء فرصة للتفاوض .
لكن، بدلًا من استثمار هذه الهدنة لوضع جدول زمني واضح لتنفيذ المطالب المشروعة (ضم علاوات 2016، صرف فروق الضرائب، التثبيت)، اختارت الإدارة المماطلة والتسويف. هذا التجاهل اعتبره العمال رسالة واضحة بأن الإدارة لا تحترم تعهداتها، وأن الحقوق لن تُسترد إلا بـ "الضغط الميداني" المستمر.
"طبقية فجة": 6 آلاف للعامل و150 ألفًا للمستشار!
لعل أخطر ما كشفته هذه الموجة الاحتجاجية هو حجم الفجوة الطبقية المرعبة داخل الشركة. فبينما يتقاضى العامل الذي أفنى 20 عامًا من عمره في الخدمة راتبًا هزيلًا لا يتجاوز 6000 أو 7000 جنيه، بالكاد يكفي لإطعام أطفاله في ظل الغلاء الفاحش، يتقاضى مديرو الإدارات رواتب تصل لـ 50 ألف جنيه .
والكارثة الأكبر، كما فجرها أحد العمال، تتمثل في "جيش المستشارين" الذين يتقاضون مكافآت فلكية تتراوح بين 100 و150 ألف جنيه شهريًا، دون أن يقدموا شيئًا يذكر للمؤسسة سوى استنزاف مواردها. هذا التفاوت الصارخ حول الشركة إلى "إقطاعية" يمتص خيراتها الكبار، بينما يغرق صغار الموظفين في الديون، مما يفسر حالة الاحتقان الشديد والهتافات الغاضبة التي رددها العمال: "عايزين حقوقنا.. العلاوات العلاوات".
مطالب مشروعة واتهامات بالفساد
تجاوزت مطالب العمال سقف "تحسين الأجور" لتطال "تطهير المؤسسة". فإلى جانب المطالب المالية العادلة (العلاوات، فروق الضرائب، التسوية الوظيفية)، رفع المحتجون مطلبًا سياسيًا وإداريًا خطيرًا: إقالة قيادات الشركة المتهمة بالفساد، وعلى رأسهم نائب رئيس مجلس الإدارة للشؤون المالية والإدارية .
هذا المطلب يعكس قناعة العمال بأن أزمتهم ليست مجرد "نقص موارد"، بل هي نتاج لسوء إدارة وفساد مالي وإداري ينخر في جسد الشركة، ويحول دون وصول الحقوق لمستحقيها. وقد ظهر العمال في مقاطع فيديو يناشدون رئيس الجمهورية التدخل شخصيًا، في إشارة لفقدانهم الثقة في كل المستويات الإدارية والوزارية الوسيطة.
نذير "تسونامي" عمالي قادم
يبدو أن وقفة الحي العاشر اليوم ليست سوى "بروفة" لما هو قادم. فقد حذر عمال مشاركون من أن استمرار التجاهل سيؤدي حتمًا لـ امتداد الاحتجاجات إلى مواقع أخرى خلال الأسابيع المقبلة، وبشكل أكثر تنظيمًا وتصعيدًا .
الذاكرة القريبة تؤكد جدية هذه التحذيرات؛ فالشهر الماضي شهد تضامنًا واسعًا امتد لمحافظات الجيزة والشرقية وبني سويف والمنيا، مما يعني أن الغضب ليس محصورًا في القاهرة، بل هو حالة عامة تسري في قطاع المياه على مستوى الجمهورية. ومع سوابق احتجاجية في الإسكندرية والقليوبية، يبدو أن قطاع مياه الشرب بات يجلس على برميل بارود قد ينفجر في أي لحظة، إذا لم تسارع الدولة بتفكيك "منظومة الفساد والمحسوبية" وتلبية مطالب هؤلاء الكادحين الذين يروون مصر بجهدهم وعرقهم.

