تجاوزت فاتورة الوقود (غاز ومازوت) لمحطات الكهرباء في مصر خلال 11 شهراً فقط حاجز 290 مليار جنيه، في وقت تعيش فيه الأغلبية الساحقة من المصريين تحت ضغط غير مسبوق من الغلاء وانهيار الخدمات، ما يحول هذه الأرقام من مجرد بيانات فنية إلى دليل إدانة سياسي واقتصادي ضد حكومة الانقلاب التي تدير قطاع الطاقة بمنطق الجباية وليس بمنطق التخطيط الرشيد.
الأرقام التي تكشف قفزة بنحو 44 مليار جنيه في شهرين، واستحواذ فترة يونيو–سبتمبر وحدها على 120 مليار جنيه من الفاتورة، تفضح نموذج حكم يحرق المال العام في محطات الكهرباء بينما يحمّل المواطنين وحدهم كلفة الفشل وسوء الإدارة.
290 مليار جنيه وقود.. من يدفع الفاتورة فعلياً؟
حين تعلن الحكومة أن تكلفة وقود محطات الكهرباء وصلت إلى نحو 290 مليار جنيه خلال 11 شهراً، فهي لا تتحدث عن رفاهية كهربائية للمواطن، بل عن نزيف مستمر لمال عام يذهب في اتجاه واحد: سد ثغرات نظام فاشل يرفض الاعتراف بأخطائه. هذا الرقم الهائل لا ينعكس لا في جودة الخدمة، ولا في استقرار الفواتير، ولا في تخفيف الأعباء عن الفئات الأضعف، بل يأتي في سياق موازٍ من رفع أسعار الكهرباء، وفرض زيادات متتالية في شرائح الاستهلاك، وتهديد دائم بتقليص الدعم تحت شعار “ترشيد الإنفاق”.
في دولة غارقة في الديون، وحدها حكومة الانقلاب تجد أنه من “الطبيعي” أن تُهدر مئات المليارات على وقود لمحطات متهالكة، بدلاً من إعادة هيكلة القطاع، أو مراجعة أولويات التوسع في مشروعات كثيفة الاستهلاك للطاقة لا يستفيد منها المواطن، مثل المصانع التابعة للمؤسسة العسكرية أو المشروعات العقارية الفارهة والمدن الجديدة التي تُغذّى بالكهرباء بسخاء بينما تُترك القرى والعشوائيات تحت رحمة انقطاعات متكررة وتهديدات بقطع الخدمة عن غير القادرين على السداد.
قفزة 44 ملياراً في شهرين.. ثمن التخبط وسوء التخطيط
القفزة الأخيرة بنحو 44 مليار جنيه في فاتورة الغاز والمازوت خلال الشهرين الماضيين ليست رقماً عابراً؛ إنها دليل مباشر على عمق التخبط في إدارة ملف الطاقة. زيادة التعاقدات على استيراد الوقود، كما يعترف المسؤولون أنفسهم، جاءت “لتجنب تخفيف الأحمال”، أي لتفادي تكرار مشاهد انقطاع الكهرباء التي فجّرت غضباً شعبياً واسعاً في الصيف الماضي.
بدلاً من الاعتراف بأن أزمة انقطاع الكهرباء كانت نتيجة طبيعية لإصرار النظام على تصدير الغاز لتحقيق عوائد دولارية على حساب السوق المحلي، اختارت الحكومة الحل الأسهل والأغلى: استيراد المزيد من الوقود بالعملة الصعبة، وتحميل الاقتصاد والموازنة العامة عبئاً إضافياً، ثم الخروج على الناس بخطاب معتاد عن “الظروف العالمية” و”ارتفاع أسعار الطاقة”. الحقيقة أن هذه الزيادة البالغة 44 ملياراً في شهرين ليست قدراً إلهياً، بل هي نتيجة مباشرة لسياسات تفضّل حماية سمعة السلطة على حماية جيوب المواطنين واستقرار الاقتصاد.
صيف 2025: أربعة أشهر ابتلعت 120 مليار جنيه وقود
استحواذ الفترة من يونيو إلى سبتمبر 2025 على 41% من إجمالي فاتورة الوقود (حوالي 120 مليار جنيه) يكشف عجزاً هيكلياً عن إدارة الطلب على الطاقة في ذروة الاستهلاك. فبدلاً من الاستثمار الحقيقي في كفاءة الطاقة، والعزل الحراري، وتخفيض الفاقد في الشبكات، والمشروعات اللامركزية للطاقة المتجددة، اختارت الدولة الطريق الأسهل والأكثر كلفة: ضخ المزيد من الغاز والمازوت في محطات تقليدية متهالكة.
هذا التركيز الموسمي الفج في استهلاك الوقود يعني أن كل صيف جديد سيحمل معه احتمال انفجار جديد في الفاتورة، ما دام جوهر المنظومة لم يتغير. وبما أن النظام يرفض المساس بامتيازات كبار المستهلكين من مصانع الجيش والقطاعات المحمية، فإن من سيدفع ثمن هذه الفاتورة الضخمة هم المواطنون عبر زيادة الأسعار، ورفع الدعم، وتآكل قيمة الجنيه، وتوسيع موجات الفقر.
أرقام الضخ اليومي.. دولة تحرق ما لا تملك
حين يقال إن محطات الكهرباء تحصل يومياً على ما بين 3.1 و3.2 مليار قدم مكعبة من الغاز، بالإضافة إلى ما بين 7 و8 آلاف طن من المازوت، فإن هذه ليست مجرد أرقام فنية، بل دليل على اقتصاد يحرق ما لا يملك. فالغاز الذي يُفترض أن يكون رصيداً استراتيجياً، إما يُعاد تصديره لصالح الشركاء الأجانب أو يُستهلك بكثافة في محطات تقليدية غير كفؤة، بينما تُترك الصناعة الوطنية والمواطن أسيري أسعار مرتفعة وعدم استقرار في الإمدادات.
كفاءة استهلاك الوقود.. وعود تجميلية تخفي الأزمة
الحديث الرسمي عن خفض معدل استهلاك الوقود من 180 غراماً لكل كيلووات/ساعة في 2024 إلى 168 غراماً في 2026 يبدو ظاهرياً وكأنه إنجاز تقني، لكن خلف هذه الأرقام قصة أخرى. النظام يقدم هذه الأهداف بوصفها دليلاً على “التحديث” و”الكفاءة”، بينما يتجاهل أن هذا التحسن النسبي – إن تحقق – لا يغير شيئاً في الحقيقة الأساسية: المنظومة نفسها مصممة لخدمة مشروعات السلطة ومصالحها، لا لخدمة المجتمع.
حتى الانخفاض المعلن إلى 171 غراماً في الأشهر الأولى من العام المالي الجاري يُستخدم للترويج السياسي، لا للمصارحة: هل تُترجم هذه الكفاءة المزعومة إلى فواتير أقل؟ إلى خدمة أكثر استقراراً؟ إلى تخفيف العبء على الموازنة بحيث ينعكس على الصحة والتعليم والأجور؟ الإجابة الواضحة: لا. ما يحدث هو استخدام لغة الأرقام لتغطية على فجوة الثقة، دون أي شفافية حقيقية في نشر عقود الطاقة، أو التكلفة الفعلية للمشروعات، أو الأطراف المستفيدة.

