في خطوة جديدة تُكرّس نهج الجباية الذي بات العلامة المسجلة لنظام ما بعد 3 يوليو، صدق قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي على تعديلات قانونية تقضي بزيادة الرسوم المفروضة على المعاملات القنصلية وتصديقات وزارة الخارجية، سواء داخل مصر أو في بعثاتها الدبلوماسية بالخارج.
هذا القرار، الذي يأتي في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تعصف بالبلاد، لا يُقرأ إلا في سياق واحد: محاولة يائسة من نظام "الإفقار" للبحث عن "الدولار" في جيوب المصريين بالخارج، بعد أن جفت منابع التمويل التقليدية وفشل في إدارة موارد الدولة. فبدلاً من دعم المغتربين الذين يمثلون الشريان الرئيسي للعملة الصعبة، يقرر النظام معاقبتهم بفرض إتاوات جديدة تحت مسمى "تطوير المقار"، بينما تذهب الأموال في الحقيقة لتمويل صناديق خاصة وامتيازات لطبقة الموظفين المحظوظين في الدولة.
تفاصيل "السطو المقنن": دولارات للمرور والتصديق
التعديلات الجديدة، التي مررها "برلمان العسكر" صوريًا، تضمنت فرض رسم يصل إلى 50 جنيهًا على كل تصديق يتم داخل مصر، وهو رقم يبدو بسيطًا لكنه يمثل عبئًا إضافيًا على المواطن المطحون في الداخل. أما الكارثة الحقيقية فكانت من نصيب المصريين بالخارج والأجانب، حيث فُرض رسم يصل إلى 20 دولارًا أمريكيًا (أو ما يعادله) على كل تأشيرة دخول أو مرور، وعلى كل معاملة قنصلية تتم في السفارات.
هذا التحول لفرض الرسوم بالدولار يكشف عن "عقدة النقص" لدى النظام تجاه العملة الصعبة، ورغبته المحمومة في تجميعها بأي وسيلة، حتى لو كان ثمن ذلك التضييق على حركة السياحة أو زيادة الأعباء على العاملين بالخارج الذين يعانون أصلاً من ارتفاع تكاليف المعيشة في دول المهجر.
تضاعف الرسوم: أرقام تفضح "كذبة" الزيادة الزهيدة
رغم مزاعم وكيل لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان السابق، طارق الخولي، بأن الزيادة "زهيدة"، إلا أن الأرقام الواقعية تكشف زيف هذا الادعاء. فرسوم التصديقات تضاعفت بشكل جنوني في السنوات الأخيرة؛ فالتصديق العادي في دولة مثل الإمارات وصل إلى 180 درهمًا، وتصديق عقد الزواج في أوروبا قفز إلى 343 يورو. هذه الأرقام الفلكية لم تعد مجرد "رسوم إدارية" لتغطية تكلفة الخدمة، بل تحولت إلى "ضريبة مستترة" يدفعها المغترب ثمنًا لغربته، وكأنه يُعاقب على محاولته النجاة بنفسه من جحيم الوضع الاقتصادي في الداخل.
صناديق "المحاسيب": أين تذهب أموال الجباية؟
النقطة الأكثر استفزازًا في التعديلات الجديدة هي تخصيص نسبة 5% من حصيلة هذه الرسوم لصالح "صناديق التأمين" الخاصة بموظفي وزارة الخارجية، لتوفير رعاية صحية واجتماعية لهم، أسوة بالقضاة والشرطة. هنا يتجلى الوجه القبيح للطبقية الإدارية في مصر؛ فبينما يُحرم المواطن العادي من أبسط حقوقه في العلاج والتعليم، يتم اقتطاع أمواله لتمويل "رفاهية" فئات محددة في الدولة (دبلوماسيين، قضاة، ضباط).
تبرير الخولي بأن هذا يحقق "مصلحة عامة" هو استخفاف بالعقول؛ فالمصلحة العامة تقتضي توجيه هذه الأموال لتحسين خدمات المستشفيات العامة المتهالكة التي يرتادها ملايين الفقراء، وليس لإنشاء صناديق مغلقة تخدم نخبة السلطة فقط.
سياسة "تطوير الحجر" وإهانة البشر
الحجة الرسمية لزيادة الرسوم هي "تطوير وتحديث مقار البعثات الدبلوماسية". هذه الحجة تلخص فلسفة النظام الحاكم: الاهتمام بـ"الحجر" والمظهر الخارجي على حساب "البشر". فبينما تنفق الملايين على تجديد واجهات السفارات وشراء مقرات فارهة للدبلوماسيين، يعاني المواطن المصري في الخارج من سوء المعاملة، والبيروقراطية، وتأخر إنجاز المعاملات. كان الأجدر بالنظام أن يطور "الخدمة" ويحترم "آدمية" المواطن قبل أن يمد يده لجيبه بحجة تطوير المباني.
إن المواطن المصري بالخارج، الذي يحول المليارات سنويًا لإنقاذ الاقتصاد، لا يحتاج إلى سفارات فخمة بقدر ما يحتاج إلى دولة تحميه ولا تستغله، ونظام يعتبره شريكًا في الوطن لا مجرد "بقرة حلوب" تُستنزف بالدولار عند كل ختم أو توقيع.
خاتمة: جباية بلا نهاية
إن مصادقة السيسي على هذا القانون ليست إلا حلقة في سلسلة طويلة من إجراءات "الجباية" التي لن تتوقف طالما بقي هذا النظام عاجزًا عن تقديم حلول اقتصادية حقيقية. لقد تحولت الدولة في عهده إلى "تاجر جشع" يبيع الأختام والتأشيرات بأغلى الأسعار، متناسيًا أن صبر المصريين، في الداخل والخارج، قد شارف على النفاد، وأن سياسة "الحلب" المستمر ستؤدي حتمًا إلى تجفيف الضرع أو انفجار الغضب.

