في مشهد يعكس عمق الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر تحت حكم النظام العسكري، بدأت حكومة الانقلاب تنفيذ حزمة جديدة من إجراءات التقشف المالي، تحت لافتة "خفض الدين العام"، بينما تتصاعد المخاوف من تداعيات هذه السياسات الكارثية على قطاعات حيوية مثل الصناعة، التعليم، الصحة، والنقل.
الواقع أن ما يحدث ليس "إصلاحًا اقتصاديًا"، بل محاولة يائسة لتأجيل الانهيار، عبر خنق المواطن وبيع ما تبقى من أصول الدولة، استجابةً لضغوط صندوق النقد الدولي، وعلى حساب التنمية الحقيقية والعدالة الاجتماعية.
رفع أسعار الخدمات والسلع: الفقراء أولًا… إلى الجحيم
بدأت الحكومة حملة تقشف شرسة برفع أسعار الطاقة والنقل والخدمات الأساسية، وهو ما يعني مباشرةً تآكل ما تبقى من القدرة الشرائية للمواطنين، وارتفاع كلفة الإنتاج والتشغيل في كافة القطاعات الاقتصادية.
الإجراءات شملت تقليص الضمانات السيادية للمشروعات الكبرى في البنية التحتية، التعليم، الصحة، والنقل، وهي القطاعات الأشد ارتباطًا بتوفير فرص العمل وتحسين جودة الحياة.
بمعنى أوضح: الدولة تتخلى عن دورها في خدمة المجتمع، وتسلّم مفاتيح الاقتصاد لكبار المستثمرين والأجانب، تاركة المواطن فريسة للأسعار والبطالة.
مالية الانقلاب: لا ضمانات... لا خدمات... ولا مستقبل
أصدرت وزارة المالية تعليمات صارمة بعدم إصدار أي ضمانات جديدة، إلا للمشروعات التي تحقق عائدًا نقديًا مرتفعًا. في الوقت نفسه، تم وقف شراء الأصول أو المعدات، إلا إذا كانت ممولة من الخارج أو عبر شراكات مع شركات أجنبية وفق نظامي BOT وPPP.
ما يجري فعليًا هو تحويل الدولة إلى مقاول من الباطن، يعمل لصالح رؤوس الأموال الأجنبية، دون أي سيادة اقتصادية أو أفق تنموي مستقل.
بل الأدهى أن بعض الأصول التشغيلية يتم نقلها إلى "صناديق استثمار سيادية"، تمويلها خارج الموازنة، في محاولة مكشوفة لإخفاء الدين الحقيقي، لا معالجته.
صندوق النقد يكتب السيناريو... والحكومة تنفّذ بدون نقاش
الحكومة لم تعد تتخذ قراراتها الاقتصادية بشكل مستقل، بل تنفذ تعليمات صندوق النقد الدولي حرفيًا، حتى لو كان الثمن هو بيع ما تبقى من القطاع العام، وتجميد المشروعات الإنتاجية.
في إطار ما يُسمى بـ"تعميم التقشف"، تسعى الدولة لخفض الإنفاق على المشروعات غير الممولة خارجيًا، وتأجيل تمويل القطاعات الصناعية، بما في ذلك مشروعات حيوية في الغزل والنسيج، وصناعة وسائل النقل، والطيران المدني.
حتى مشروع القطار السريع الذي روّج له السيسي شخصيًا، أصبح على قائمة التأجيل أو الإلغاء. وكل ذلك فقط لأن الدولة عجزت عن ضبط أولوياتها المالية لعقد كامل من الفساد والديون.
الاقتصاد الهش: ديون بالجملة… وأموال ساخنة قابلة للهروب
يؤكد الخبراء أن هذه الخطوات المتسارعة تعكس هشاشة الوضع المالي للدولة المصرية.
فالدين الخارجي تجاوز حاجز 162 مليار دولار، والدين المحلي يتضخم، بينما تعتمد الحكومة بشكل مقلق على "الأموال الساخنة" التي بلغت نحو 42 مليار دولار، وهي استثمارات مؤقتة يمكن أن تنسحب في لحظة، فتترك الاقتصاد يترنح.
تكلفة الدين العام وصلت إلى 55% من الموازنة، ما أجبر الحكومة على تقليص كل شيء: من الحافلات الكهربائية إلى مشروعات الطاقة، إلى الخدمات الصحية والتعليمية.
باختصار: المواطن يدفع فاتورة فشل لا يد له فيه، بينما لا تقترب السلطة من الإنفاق السيادي على التسلح أو المشروعات العقيمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة.
إفقار منظم وتأجيل للانفجار
تروّج الحكومة أن هذه السياسات "ضرورية" لتحسين الاستدامة المالية، لكن الوقائع تشير إلى أن التقشف في ظل غياب إصلاح هيكلي حقيقي، لن يؤدي إلا إلى تضييق الخناق على الاقتصاد المحلي، وزيادة معدلات الفقر، وتراجع الاستثمار، وتفشي البطالة.
العملة المحلية ستظل تحت الضغط، والطبقة الوسطى تواصل الانهيار، بينما تتسع الهوة بين قلة مستفيدة من الامتيازات والمشاريع الخاصة، وغالبية مسحوقة تعاني من غلاء المعيشة وتدهور الخدمات.
تقشف من لا يملك على من لا يملك
حكومة الانقلاب لا تتقشف على القصور أو المؤتمرات أو صفقات التسليح، بل على المدارس والمستشفيات والمصانع.
الطبقة الحاكمة تهدر المليارات على مشاريع استعراضية، ثم تطالب المواطن بالتضحية من أجل "خفض الدين".
إنها إدارة فاشلة تحوّل الأزمة إلى كارثة، وتحمّل الفقراء نتائج سياساتها الكارثية، في مشهد يعكس سقوطًا أخلاقيًا واقتصاديًا لا يمكن تجميله.
ما لم يُوضع حد لهذا المسار، فإن عام 2027 لن يشهد استقرارًا أو تعافيًا، بل ربما الانفجار الكبير… اقتصاديًا واجتماعيًا.

