طه خليفة
كاتب وصحفي مصري
افتتاح المتحف المصري الكبير حدث ثقافي وتراثي وحضاري وإنساني مهم لمصر والعالم. إنجاز كبير تحقق أخيرًا. بدأت فكرته في عهد حسني مبارك عام 1992، وبعد 33 عامًا خرج إلى العالم محتضنًا مجد مصر ذات التاريخ العريق.
مشروعات كثيرة بزغت فكرتها في عصر مبارك، ويتم تنفيذها كلها أو بعضها بعد ثورة يناير التي أسقطت حسني مبارك، وتحديدًا بعد انكسار يناير والعودة إلى جوهر ما كان قبلها.
وحتى لا نظلم حسني مبارك، فإن رؤيته وسياساته انحازت إلى ضمان استقرار الأوضاع الاجتماعية والمعيشية، وعدم تعريض الاقتصاد الضعيف أصلًا لهزّات عنيفة يصعب علاجها إلا بتكاليف ضخمة يتحملها المواطنون.
ولهذا تحرك مشروع المتحف ببطء إلى حدٍّ ما، ومشروع العاصمة الإدارية تجمّد عند الفكرة، وخطة الطرق والجسور ومشروعات النقل كانت تسير وفق حسابات هادئة مدروسة، وتبعًا للمتاح من موارد، ولهذا لم تكن الديون ضخمة، ولم تتراجع قيمة الجنيه، ولم تكن الأسعار فوق الاحتمال، ولم تكن الضرائب والرسوم ومختلف أشكال تحصيل المال من الناس مُرهقة، ولم تكن الحياة في عمومها، وأفكار وسياسات الرفق والرحمة بالناس، بمثل مصاعبها وتعقيداتها حاليا.
مع هذا، نحن سعداء بافتتاح المتحف، فهو الحدث الكبير الذي ظلّت مصر تنتظره طويلًا، ويترقبه العالم، فهو يضم إرثًا مهمًّا للتاريخ والحضارة المصرية القديمة المتفرّدة، التي يصعب محاكاتها اليوم رغم التطور الهائل في العلوم والفنون والتكنولوجيا والمعمار وكافة مجالات العلم والدراسة والبحث والابتكار والإبداع.
كم تكلفة المتحف؟
من الضروري أن تعلن الجهات المعنية كشف حساب للتكاليف المالية لإنشاء المتحف، ومصادر الأموال التي تم إنفاقها عليه، والقيمة السوقية الحالية للأرض التي يتمدّد عليها، ونسبة الأموال المقترضة في تمويله، وأموال المنح والهبات التي لا تُرد، ونسبة التمويل الذاتي من الخزانة العامة.
وماذا عن تكلفة حفل الافتتاح، وما قبل الحفل من استعدادات، ومن ضمنها الحملة الإعلانية الترويجية له، وهي لم تكن مُدهشة، بل عادية، وربما الفيديو الترويجي البسيط للمتحف الذي صنعه الشاب عبد الرحمن خالد كان لافتًا، وكان قد تم القبض عليه وحبسه لوقت قصير بعد بلاغ وزارة السياحة والآثار ضده بزعم أن هذا الفيديو يُشوِّش على الحملة الترويجية الرسمية للمتحف.
معرفة التكاليف مهمّة لمعرفة متى يكون بمقدور المتحف تعويض جانب من هذه التكاليف؛ ذلك أن للمتحف، وأي متحف في أي بلد، وجهين:
الأول: الوجه الثقافي التراثي الحضاري، وهذا لا يُقدَّر بثمن، لأنه أمر عظيم أن يكون في مصر متحف ضخم، ربما هو الأكبر في العالم، تم تصميمه وتشييده بمقاييس عالمية لعرض تاريخ مصر القديم، خاصة الفرعوني، في هذا الأفق الواسع بدل المتحف المصري القديم في ميدان التحرير الذي ضاق عن استيعاب كل إرث الحضارة القديمة، بجانب طبيعة المكان التي لم تعد ملائمة لاستيعاب وفود الزوار إليه.
والوجه الثاني هو الاستثماري التجاري، فالمتاحف صارت مصدر دخل، والآثار فيها جانب اقتصادي عبر الزيارات الداخلية والمعارض الخارجية لها، والعالم مفتون بالآثار الفرعونية.
إدارة متحضّرة وليس الفهلوة
عوائد المتاحف والمعارض تُساهم في الاعتناء بالمرافق الأثرية وتُعزّز الدخل القومي، هذا إذا تعاملنا مع هذه الثروة بأساليب إدارية وفنية علمية متحضّرة، وليس بالفهلوة والعشوائية والفوضى.
ومن المهم أن تظل حالة وصورة المتحف الرائعة الحالية كما هي على جمالها وروعتها ونظامها وانضباطها وجودتها ودقتها ونظافتها، ليُدار في الداخل وفي محيطه بمواصفات عالمية، بعيدة عن نمط الإدارة غير الموفق في مرافق وجهات وهيئات عديدة.
ومن الأسف أن كل شيء في مصر يبدأ جميلًا وجذابًا، ثم تدريجيًّا يزحف عليه الإهمال ويتبدّد الجهد والمال الذي تم إنفاقه عليه.
نادِرًا ما تجد مبنى أو مكانًا تم تشييده حديثًا على حاله بعد وقت قصير من افتتاحه، وهذا يعود إلى عشوائية التعامل مع المكان وعدم احترامه والحفاظ عليه، بل إذا استطاع أحد التشويه والتخريب فإنه سيفعل، وربما مردّ ذلك إلى مساحة من الجهل وغياب الوعي وشعور المواطن بالتهميش والظلم الاجتماعي والسياسي، بجانب أحاديث الفساد، فلا يشعر هذا المواطن بالارتباط بالأماكن والمرافق العامة.
أسلوب التعامل في إدارة المتحف يجب أن يتغيّر جذريًّا عن الأساليب القائمة حاليًّا، حيث الموظف والعامل وكل طواقم الخدمة لا بد أن يتعاملوا برقي واحترام مع الزائر، سواء كان مصريًّا أم أجنبيًّا. وهذا التعامل يمتد إلى الجهات التي تتولى حفظ الأمن، وكذلك من يوجدون خارج المناطق الأثرية من باعة متجولين وأصحاب محال وغيرهم ممن نراهم يضايقون السائحين ويستغلّونهم بشكل مُقزّز.
تجارب غير طيبة
هناك زوّار أجانب يُغادرون مصر بتجارب وانطباعات وذاكرة غير طيبة من حيث التعامل معهم، والنظر إليهم باعتبارهم “محفظة مالية” فقط.
لا أظن أن دول العالم المهتمة بالترويج لنفسها وجذب الزوار لمشاهدة ما تمتلكه من آثار يحدث فيها هذا الذي يحدث عندنا، ولهذا نجد أرقام السائحين أقل كثيرًا مقارنة ببلدان أخرى لا تمتلك عُشر ما تمتلكه مصر من آثار مبهرة.
مع سرقة متحف اللوفر الفرنسي مؤخرًا قرأنا أن عدد زواره لا يقل عن 15 مليونًا سنويًّا، هذا لمتحف واحد، أما أرقام السائحين لآثار مصر كلها في المتاحف المغلقة والمناطق المفتوحة فهي بعيدة عن هذا الرقم.
هل تبدأ مصر فصلًا جديدًا في احترام آثارها وزائريها ومعاملتهم بنبل ورقي؟ فهي ثروة ذهبية أبدعها الأجداد بفنهم وأناملهم وعرقهم ودمائهم، وبإرادة جادّة يمكن أن تدرّ مليارات الدولارات سنويًّا لتشكّل مصدرًا مهمًّا في الدخل القومي.
ماذا ينقصنا ليكون عدد السائحين إلى مصر مئة مليون مثلًا؟ هل نحن أقل من إسبانيا وفرنسا وتايلاند وتركيا وغيرها من البلدان الجاذبة للسفر والسياحة، والتي تستقبل أعدادًا هائلة من السياح سنويًّا، وكل بلد منها لا يمتلك جانبًا من الإرث التاريخي العظيم الموجود في مصر؟

