في خطوة جديدة أثارت جدلاً واسعًا، وافقت لجنة العلاقات الخارجية في لمجلس نواب الانقلاب على مشروع قانون حكومي يقضي بفرض رسوم إضافية على الخدمات القنصلية والتصديقات داخل مصر وخارجها، بذريعة تمويل مباني وزارة الخارجية في الخارج.
القرار، الذي اعتبره مراقبون استمرارًا لنهج الجباية المنظمة من المواطنين داخل مصر والمغتربين في الخارج، يعكس اتجاهاً حكومياً نحو تحميل المصريين مزيداً من الأعباء المالية لتغطية عجز الموازنة المتفاقم، في وقت تعاني فيه الدولة من أزمة اقتصادية خانقة وانهيار في الخدمات العامة.
تفاصيل مشروع القانون
ينص مشروع التعديل، الذي ناقشته اللجنة بحضور السفير ياسر رضا، مساعد وزير الخارجية للشؤون المالية والإدارية، والسفيرة هبة محمد زكي، مساعدة الوزير للشؤون البرلمانية، على فرض رسم إضافي لا يجاوز 50 جنيهاً على كل تصديق داخل مصر، ورسم آخر لا يتجاوز 20 دولاراً أو ما يعادله بالعملات الأجنبية على كل تأشيرة دخول أو مرور تصدرها السلطات المصرية بمنافذ الدخول.
كما يمتد القرار إلى جميع المعاملات القنصلية في السفارات والقنصليات المصرية بالخارج، بما في ذلك إصدار التصديقات، التأشيرات، وعقود الزواج، ومعاملات المصريين العاملين في الخارج.
ويمنح مشروع القانون رئيس مجلس الوزراء سلطة تحديد شرائح الرسوم بقرار يصدر عنه بعد موافقة مجلس الوزراء وبناء على عرض من وزير الخارجية.
أما حصيلة الرسوم، فستُوجَّه إلى صندوق تمويل منشآت وزارة الخارجية في الخارج، مع تخصيص نسبة 5% منها لصناديق التأمين الخاصة بالعاملين في الوزارة.
رسوم متزايدة تثقل كاهل المواطنين
رغم أن الرسوم القنصلية في مصر كانت أصلاً مرتفعة مقارنة بمعظم الدول العربية، فإن التعديلات الجديدة تمثل قفزة جديدة في أسعار الخدمات الحكومية.
فعلى سبيل المثال، تتراوح رسوم التصديق في مكاتب وزارة الخارجية داخل مصر حالياً بين 65 و1050 جنيهاً للمستند الواحد، وهو مبلغ يعادل أجر أسبوع كامل لموظف من الطبقة المتوسطة.
أما في السفارات بالخارج، فقد تضاعفت الرسوم بشكل مبالغ فيه خلال السنوات الأخيرة، إذ تبلغ قيمة التصديق العادي في الإمارات 180 درهماً (نحو 49 دولاراً)، بينما تصل رسوم التصديق على عقد الزواج للمصريين في دول الاتحاد الأوروبي إلى 343 يورو (398 دولاراً) — وهي أرقام تضع المغتربين في مواجهة مباشرة مع استنزاف مالي متواصل باسم “الخدمات القنصلية”.
جباية لا تنتهي.. وذريعة “تمويل المباني”
تبرّر الحكومة هذه الرسوم بأنها وسيلة لـ"تمويل إنشاء وصيانة مباني وزارة الخارجية في الخارج"، إلا أن مراقبين يرون أن الهدف الحقيقي هو سد عجز الموازنة العامة وجمع موارد سريعة من جيوب المواطنين.
فالوزارة تملك أصلاً ميزانية مخصصة ضمن الموازنة العامة، كما تتلقى تمويلاً سنوياً لتغطية نفقات البعثات الدبلوماسية، ما يجعل فرض رسوم جديدة ازدواجاً ضريبياً مقنّعاً.
ويرى محللون أن تخصيص 5% من هذه الرسوم لصناديق تأمين العاملين بالوزارة هو مكافأة بيروقراطية على حساب المواطنين، تعكس منطق الدولة الذي يحوّل كل مرفق خدمي إلى مصدر جباية.
فبدلاً من تطوير الأداء القنصلي أو تحسين جودة الخدمات، تلجأ الحكومة إلى الجباية باسم “الخدمة” دون التزام فعلي بتحسينها.
مغتربون بين استنزاف الغربة وبيروقراطية السفارات
أبدى عدد كبير من المصريين العاملين في الخارج غضبهم من هذه الإجراءات، معتبرين أنها تسلبهم ما تبقى من دخلهم الهزيل بعد سنوات من التضخم وتراجع الجنيه.
ويقول أحد المغتربين في الكويت: “كل معاملة في السفارة تحتاج تصديقاً أو توقيعاً بمقابل مضاعف. ندفع ضرائب في مصر ورسوم هنا، ثم يقولون لنا دعم الوطن!”
في المقابل، تشير منظمات حقوقية إلى أن السفارات المصرية باتت تتعامل مع المصريين كمصدر دخل، لا كجهات تقدم خدمات دبلوماسية.
فحتى استخراج شهادة ميلاد أو قيد زواج يحتاج إلى دفع رسوم تتجاوز في بعض الحالات 10% من راتب العامل الشهري، وهو ما يُعد استغلالاً فجًّا للمغتربين الذين لطالما قدّموا تحويلات مالية تعتبر من أهم مصادر النقد الأجنبي لمصر.
تشريعات بلا رقابة.. وبرلمان بلا معارضة
يأتي هذا القرار ضمن سلسلة طويلة من القوانين المالية والضريبية التي يمررها البرلمان دون مناقشة حقيقية، في ظل غياب المعارضة وضعف الدور الرقابي.
فمنذ بداية 2024، أقرت الحكومة زيادات متتالية في رسوم المرور، استخراج الأوراق الرسمية، خدمات الكهرباء والمياه، ورسوم القضاء والضرائب العقارية، وكلها تصب في إطار سياسة الجباية المستمرة.
ويرى خبراء الاقتصاد أن هذه السياسات تمثل هروباً من الإصلاح الاقتصادي الحقيقي، عبر تحميل المواطنين والمغتربين عبء فشل الإدارة المالية، بينما يُستثنى كبار رجال الأعمال والمؤسسات العسكرية من أي التزامات ضريبية عادلة.
وتواصل حكومة السيسي تحويل الدولة إلى ماكينة جباية ضخمة، تُفرغ جيوب المصريين في الداخل والخارج باسم "الخدمة العامة" و"تمويل المباني".
وإذا كان هذا القانون الجديد خطوة صغيرة في سياق طويل من الجشع الحكومي، فإنه يكشف بوضوح عن طبيعة النظام الذي يرى في المواطن مجرد مصدر دخل، لا شريكاً في الوطن.
ومع كل رسم جديد يُفرض، يتأكد أن حكومة الانقلاب لم تعد تعرف سوى طريق واحد: أن تُحصّل لتبقى، ولو على حساب الشعب الجائع والمغترب المرهق.

