في الوقت الذي احتفت فيه وسائل الإعلام الرسمية بالعرض الفني الضخم "وطن السلام"، الذي أقيم برعاية الدولة ووسط حضور واسع لشخصيات عامة وفنانين، كان هناك وطن آخر مختفٍ خلف المشهد: وطن الفقر، والانكسار، والصمت الإجباري.
الاحتفال، الذي تم تصويره بعناية لإبراز مشاهد الجمال والبهرجة والإضاءة الفاخرة، لم يمر مرور الكرام على كثير من المثقفين والناشطين. بل تحول إلى مناسبة لإعادة طرح السؤال الجوهري: لمن يُقام هذا الوطن المصنوع من الصورة؟ وأين الشعب الحقيقي في هذا السرد الرسمي المترف؟
الحنين لرجال مبارك ليس حبًا فيهم، بل يأسًا من الحاضر
الباحث والأكاديمي د. حسين دقيل علّق على الاحتفالية في منشور لافت قال فيه: "عندما يحن البعض إلى أيام رجال مبارك، فليس لأنهم جديرون بالثناء، بل لأن معظم الحاليين ممن لا يعرف الناس حتى أسماءهم، لا موضع للثناء فيهم".
الكلمات، وإن جاءت مختصرة، تعكس حالة الفراغ السياسي والإنساني التي يشعر بها قطاع واسع من المصريين. ففي ظل اختفاء الوجوه السياسية، وتغييب الحياة العامة، أصبح الناس يقارنون بين "سوء الأمس" و"غموض اليوم"، ولا يجدون إلا الحنين لما كان، لا حبًا فيه، بل رفضًا لما هو قائم.
وطنان.. أحدهما يُعرض، والآخر يُخنق
أما الإعلامية فادية الغزالي حرب، فذهبت أبعد من ذلك، وكتبت تعليقًا لاذعًا على مشاهد الاحتفال:"ما الذي شعرت به وأنت تشاهد الاحتفال بما أسموه (وطن السلام)؟ الجمال والبذخ والهيلمان، بينما الأسوار العملاقة تخفي شعبًا آخر، بحاراته وأزقته ومآسيه، وهو يكابد بأغلبيته في مجتمع الفقراء قوي، فقراء التعليم والصحة والرزق، فقراء الشكوى غير المسموعة والألم غير المعتَرف به".
هذا التوصيف العميق يرصد ما يشعر به المواطن البسيط حين يشاهد حفلات الدولة الباذخة على الشاشة، بينما يعجز عن شراء العلاج أو دفع مصروفات المدرسة.
إنها ليست مسألة فنية أو ترفيهية، بل فجوة أخلاقية وسياسية عميقة بين الدولة الرسمية ودولة الناس.
وطن السلام أم وطن التجميل؟
العرض المسرحي "وطن السلام" بدا وكأنه فيلم دعائي طويل، أرادت به الدولة إرسال رسائل إلى الداخل والخارج: نحن مستقرون، نحن مزدهرون، نحن "في أحسن حال".
لكن الواقع يقول شيئًا آخر:
ارتفاع غير مسبوق في الأسعار.
منظومة تعليم منهارة.
خدمات صحية متردية.
انكماش الطبقة الوسطى.
بطالة مقنّعة ومعدلات فقر تتسع عامًا بعد عام.
في ظل هذه الحقائق، يصبح الحديث عن "وطن السلام" تجميلًا مؤقتًا لواقع قاسٍ، لا تُصلحه الأضواء ولا الأغاني الوطنية.
حين يُحتفل باسم الشعب.. دون حضوره
المفارقة أن مثل هذه الاحتفالات تُقام باسم الشعب، وتُموَّل من ميزانيته، لكنها لا تعبّر عنه، ولا يُدعى إليها، ولا يُسأل عن رأيه فيها.
من الغريب أن يتم عرض لوحات فنية عن "الأمل" و"الصمود"، بينما يُسجن من يرفع صوته مطالبًا بحقه، أو يُطارد من يدافع عن حرية التعبير، أو يُهمَّش من يسعى لتنظيم صفوفه سياسيًا.
"وطن السلام" مجرد عنوان آخر يُضاف إلى سجل من الشعارات المفرغة من المضمون، تلك التي تُستخدم لتزيين خطاب رسمي لا ينعكس على حياة الناس.
والخطر الأكبر، كما يرى مراقبون، ليس في البذخ ذاته، بل في فقدان الإحساس بالفجوة بين ما يُعرض وبين ما يُعاش.
فحين لا تشعر السلطة أن هذه الفجوة تُحرجها، فإنها تصبح قابلة للاستمرار، بل وللتضخيم.
لا سلام بدون عدالة
الاحتفال بـ"وطن السلام" لم يكن احتفالًا بالشعب، بل بمنظومة مغلقة تحتفل بنفسها، وتزيّن صورتها، في وقت يتآكل فيه الإيمان العام بالعدالة، والمساواة، والكرامة.
إن السلام الحقيقي لا يصنعه المسرح، بل تصنعه سياسات عادلة، وحقوق محترمة، وكرامة محفوظة.
وما لم يحدث ذلك، ستظل كل "الأوطان المضيئة" على المسرح، مجرّد ديكور هش، تُخفي وراءه جراحًا مفتوحة، وأصواتًا لم يعد يُسمع لها سوى صدى داخل أسوار "وطن آخر" لا يُعرض على الشاشات.

