وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

كان الظن أنّ أكثر من عشر سنوات من تمكّن الاستبداد واستقراره سوف تجعله أكثر هدوءًا واتزانًا وتعقّلًا في التعاطي مع مؤيديه ومعارضيه، خصوصًا حين تكون هذه المعارضة في أشدّ حالاتها ضعفًا وهشاشًة ويأسًا من أن تُشكّل بديلًا أو مُنافسًا على المديين البعيد والقريب، غير أنّه تبيّن أنّ الاستبداد أكثر هشاشًة من المعارضة إلى حدّ الخوف من قصاصة ورق أو جملة عادية على مواقع التواصل الاجتماعي.

 

كان المتصوّر أن ينمو عقل الاستبداد بالقدر نفسه الذي تتضخّم به عضلاته وأنيابه الأمنية، فيفرج عن السياسة المحبوسة في قمقم الخوف من المجهول، ويطلق سراح الحرية المسجونة في كهوف الفزع من المؤامرات الكونية على الوطن، المحبوس بدوره في حكمة القائد الأوحد الفرد الذي يلغي تفكير  المجموع وإرادته، لأنه وحده الذي يفهم، ووحده الذي يعرف مصلحة البلاد والعباد.

 

في تونس، كما في مصر، اتضح أنّ السلطة لا تزال خائفة من أشباح الثورة الشعبية التي قتلتها مائة مرّة منذ امتلكت زمام الحكم بالسيف والكهنوت والخرافة، إذ صارت ترى أمامها عدوّاُ جديدًا تعدّه خطرًا داهمًا على الوطن، وهو "جيل Z" الذي عبّر عن نفسه في المغرب بتظاهراتٍ هي الأكبر والأوسع منذ 15 عامًا، وامتدّت آثاره إلى تونس، باكورة ثورات الربيع العربي، وهنا امتشق قيس سعيّد (الجنرال بلا عسكرية) سيوف الفرزدق وجرير، وقرّر الخروج لمقاتلة "Z" عبر شاشة التلفزة، مُحذّرًا ومتوعّدًا، تارًة باستعداء الشعب على هذا الجيل، وتارّة بمحاولة السخرية منه، غير أنّه في كلّ الحالات بدا مرعوبًا من شبح التغيير الذي تملّقه ونافقه وركب أمواجه إلى سدّة الحكم ذات يوم، فلما وصل قرّر أن يُشعلَ فيه النار ويطلق عليه الرصاص.

 

ردّة فعل الرئيس التونسي حيال التظاهرات الاحتجاجية في مدينة قابس ضدّ أوضاع بيئية تتهدّد المنطقة بالتلوّث القاتل بيّنت إلى أي حدّ تخاف السلطة من خيالها، ذلك الخيال المسكون بذكرياتها في الوصول إلى العرش بالاستثمار في ثورة شعبية خالدة بدأت باحتجاجاتٍ عاديةٍ وبسيطة، ثم تحوّلت إلى ثورة شعبية كاسحة، حين ارتكب النظام حماقاتٍ أهانت كرامة الجماهير واستباحت دماءها، وهي الثورة التي حملت سعيّد إلى العرش فيما بعد، حين راح يدّعي أنه ولدها البارّ بها، فلما وصل أهانها واستبدّ وتسلّط عليها واحتقرها حتى جرّدها من اسم "ثورة"، ثم راح يصفها بأنها كانت مؤامرة على البلاد.

 

لا تختلف الصورة كثيرًا في مصر، المُفترض أنّ السلطة الحالية فيها أكبر سنًّا، وبالتالي أكثر إحساسًا بالاستقرار وأكثر نضجًا من سلطة تلميذها قيس سعيّد، لكن الاستبداد يبدو أنه، مهما تضخم جسمه، لا ينمو عقله، ويبقى متوقّفًا هناك عند مرحلة الفزع الطفولي من صيحة أو كلمة أو هتاف أو راية تُرفع  في ملعب كرة قدم أو تظاهرة داعمة للشعب الفلسطيني في غزّة، وإلا ما هذا الاستعراض البدائي المُبتذل الذي شاهده الناس في شوارع العاصمة البلجيكية بروكسل؟ وما هذا الاصطناع المُضحك لحالة جماهيرية مشحونة جوًّا وبرًًا من عواصم أوروبية للهتاف بحياة الزعيم على أرض بلجيكا، وتحوّله إلى تمثال مطلي بما يشبه الذهب؟

 

وما هذا الفزع من شاب يمسك بجهاز هاتف محمول ويسخر من النظام أو يهتف ضدّه إلى الحدّ الذي يصبح محور خطب رئاسية وقضية أولى لدى وزارة الخارجية، وما هذا الرعب من منشور هادئ يكتبه صحافي عاقل ومحترم بشهادة كل من عرفوه، وينشره على منصّة فيسبوك، اسمُه هاني صبحي، فتعلن الحكومة الاستنفار وتعتقله فجرًا وتقتاده إلى المجهول، لأنه استدعى حكاية من التاريخ القديم؟ ما هذا الإنفاق الهائل على هذه الحالة من "الطوطمية" التي كان الطاغية فيها يختبئ من هشاشته وشعوره المستمرّ بالخطر في هذا المناخ المُنتمي بالكلية إلى كهوف التاريخ المظلمة؟

 

مرّة أخرى، نحن بصدد عملية ارتهان الشعب في حضانات الخوف بمداعبة غرائز الوطنية الزائفة.