شريف هلالي

محام وباحث حقوقي مصري

 

"طيور الظلام" شريط سينمائي شهير وتدور أحداثه في تسعينيات القرن العشرين، بطله الرئيسي عادل إمام الذي يؤدّي دور فتحي نوفل، المحامي الذي ينحدر من أسرة فقيرة، لكن لديه الطموح والذكاء، ويسوقه حظه السعيد ليقترب من دائرة النفوذ، ويكلف بمهمّة مساعدة وزير ترشّح في دائرة ريفية فقيرة، ويقوم بمنصب مدير حملته الانتخابية لحشد الناخبين مستعينًا، بمساعدة زميله المحامي الذي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين. في هذا الوقت، كانت الشعبية أحد المعايير المهمّة. وبالرغم من استخدام التزوير والتدخّلات الأمنية في دوائر رسمية، سواء بتزوير النتيجة، أو بمنع الناخبين المعارضين من التصويت.

 

في الواقع الحالي في مصر، لا حاجة لذلك، فنظام القوائم المطلقة قضى على مبدأ التعدّدية السياسية، ومنع تمثيل القوى المستقلة أو المعارضة، لأنه يجعل الفوز "صفقة كاملة" لصالح طرفٍ واحدٍ من دون أي تمثيلٍ نسبيٍّ للآخرين، خصوصًا عندما يترشّح بمفرده من دون منافس.

 

وفقا لهذا النموذج، تدار الانتخابات من أعلى، وتتم هندستها في كل خطواتها في ظلال الدولة العميقة، وهي التي تختار أعضاء هذه القوائم. من ناحية أخرى، خصّصت بعض الأحزاب هذه المقاعد للراغبين في الترشّح بمبالغ تصل إلى ملايين الجنيهات، مقابل نفوذ هائل، بعد حصوله على المقعد مستقبلا.

 

وتشبه قوائم الانتخابات البرلمانية في مصر، سواء القوائم أو الفردي "كشوف البركة" التي راجت في مصر في الثمانينيات، واستخدمتها شركات توظيف الأموال ذات الرداء الديني وقتها بتخصيص عطاءاتٍ ماليةٍ لكبار المسؤولين. ... هذه الكشوف هي الباب الرئيسي لدخول البرلمان، حيث يتم اعتبار القائمة ناجحة منذ التوافق عليها وتقديمها للترشّح، بل وتفوز بالتزكية بعد وضع المعوقات أمام الأخرين، كما حدث في انتخابات مجلس الشيوخ التي لم يذهب فيها مقعدٌ واحدٌ لأي مرشّح خارج قوائم التحالف الحكومي.

 

والانتخابات هنا مجرّد شكل يجري استيفاؤه ولا تتوقف على ثقة الناخب أو اختياره الذي يأتي عبر رشوته ماليًا وإجباره، إذا لزم الأمر، وهو يمثل جزءًا من المشهد أمام اللجان لاعتبارات الدعاية الإعلامية.

 

هذه المرّة كما حدث قبلها، سواء في القوائم العابرة للمحافظات أو المقاعد الفردي، تطبق الآلية نفسها منذ 2015 عبر ما تُسمّى القائمة الوطنية من أجل مصر، ومن أبرزها حزب "مستقبل وطن" وحديثا "الجبهة الوطنية"، وهي ليست أحزابًا بالمعنى المعروف تميزها برامج وسياسات اقتصادية واجتماعية تنفّذها لصالح المواطنين، ويهمّها تكوين قاعدة اجتماعية وسياسية داعمة لها، بل مجرّد واجهة لأجهزة الدولة، تستطيع من خلالها السيطرة على البرلمان وتمرير القوانين والسياسات المطلوبة منها عبر التشريعات التي يجري تصميمها لصالح أصحاب النفوذ ومجموعات المصالح.

 

ويأتي اختيار هؤلاء المرشّحين عبر الولاء فقط من خلال منابع أساسية، أهمها النواب السابقون المنتمون لعائلاتٍ احتكرت الوجود البرلماني منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الحزب الوطني (المنحل*، ثم أصبحوا بالتبعية جزءًا من أحزاب الموالاة، بالإضافة إلى النخبة الجديدة من رجال الأعمال وضباط الجيش والشرطة الكبار وأعضاء السلك القضائي والمسؤولين في الدولة.

 

توصَف الانتخابات في الدول الديمقراطية بأنها المعيار الوحيد للشعبية، وهي تقوم على حرّية التصويت والاختيار. ويمكن أن يشكل حزب معيّن الحكومة في وقتٍ ما إذا حظي بالأغلبية، ثم تضعف شعبيّته ليصبح في المعارضة، في هذه الدول النائب ولاؤه الأساسي للناخبين، ويعبّر عنهم، بل تأتي قاعدته المالية من التبرّعات الخاصة بمؤيديه، سواء كانوا رجال أعمال أو مواطنين. ولكن النائب في بلادنا المنكوبة بالاستبداد، يأتي عبر أداة شكلية يتحدّث عنها الدستور، ليجري اختياره في مجالس برلمانية غير مستقلة تسيّرها أجهزة الدولة كما تريد، كما يجري اصطناع هيئات لإدارة الانتخابات، وهي خاضعةٌ أيضًا لتبعية جهاز الدولة بشكل أو بآخر من خلال تعيين أعضائها... وبإمكان المواطن معرفة نتائج الانتخابات مسبقًا، ليس من خلال قياسات الرأي العام واستطلاعاته، وإنما بمعرفة القوائم الانتخابية المختارة.

 

في هذا السياق، هناك بعض الملامح في هذا المشهد الانتخابي لمجلس النواب أهمها: سيطرة أحزاب الموالاة على القوائم الانتخابية، وامتدّت هذه السيطرة أيضًا إلى مقاعد الفردي، ويلاحظ توجّه الدولة عبر الهيئة الوطنية للانتخابات باستبعاد بعض المرشّحين التابعين لأحزاب معارضة، مثل الدستور والتحالف الشعبي وتيار الأمل من القوائم الأولية للمرشّحين، رغم تمتع بعضهم بقاعدة جماهيرية في دوائرهم، بمبرّرات غير مقبولة بدعوى "عدم استيفاء الشروط" أو "أسباب إجرائية"... ولا يضعف هذا الأسلوب فقط مبدأ تكافؤ الفرص، بل يفرغ الانتخابات من مضمونها الديمقراطي، ويحوّلها إلى آليةٍ مغلقةٍ لتجديد النخبة السياسية نفسها، الموالية للسلطة التنفيذية. كما أنه يؤدّي إلى إحساس النخبة بالعجز عن إحداث أي تغيير سياسي بالطريق الديمقراطي، وهو ما قد يجبر بعضهم على سلوك طرق أخرى.

 

ـ جاء التطبيق البرلماني منذ عام 2015 ليسمح بفكرة توريث المقاعد، والمبنيّة على وجود مقاعد احتياطية تساوي مقاعد القائمة التي عدد أعضائها 284. وتذهب كل هذه المقاعد الاحتياطية إلى أقارب الأعضاء الاساسيين في القائمة "أخ، ابن، ابنة". وفي حالة ما إذا حدث شيءٌ للمرشّح الأساسي يأتي الاحتياطي بدلا منه، وهو ما يغيّب فكرة الاختيار في حد ذاتها، ويسمح بأن هذه المقاعد جزءٌ من الإرث العائلي. وتغيب فكرة الانتماء السياسي في حدّ ذاتها.

 

ـ يلاحظ في هذه الانتخابات ترشّح الأعضاء في دوائر ومحافظات ليسوا منها، ولم يقوموا بأي نشاط سياسي سابق، وفي الوقت نفسه، استبعاد آخرين لهم حضور تنظيمي وجماهيري. ما أثار موجة من الغضب، وأدّى إلى استقالات جماعية في عدة أحزاب، كما يغيب ذلك ارتباط النائب بالدائرة ومعرفة مشكلاتها واحتياجاتها.

 

في النهاية، تطيح هذه الانتخابات التي تدور وفق ماكينة ترعاها أجهزة الدولة وتغيب عنها فكرة الاختيار الديمقراطي أي مبدأ الفصل بين السلطات، وفي الوقت نفسه، يغيب الدور الأساسي للبرلمانات في مراقبة السلطة التنفيذية، وبذلك يجري إفراغ البرلمان من وظيفته مؤسسة رقابية وتمثيلية ليتحوّل أداة تابعة للسلطة. ... وتوضع علامات استفهام على مستقبل الوضع السياسي في مصر، وغياب آلية للحكم الرشيد، خصوصًا في ضوء تفاقم الأزمة الاقتصادية.