لم يكن مشهد قمة شرم الشيخ في أكتوبر 2025 سوى تكرار مأساوي لنمط السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: حضورٌ استعراضي يملؤه الخطاب العاطفي والوعود المكرّرة، يقابله غيابٌ كامل لأي إرادة حقيقية لإنهاء المأساة الفلسطينية. فبينما اجتمع أكثر من عشرين زعيمًا عربيًا وغربيًا تحت رعاية مصرية أمريكية مشتركة، تحولت القمة التي وُصفت بأنها “تاريخية” إلى ما يشبه “مسرحًا دبلوماسيًا” أعاد إنتاج المأساة بملامح جديدة.

القضية الفلسطينية، التي كان يُفترض أن تكون جوهر الاجتماع، لم تحضر إلا كملف جانبي ضمن جدول أعمال مزدحم بالشعارات. أما المحرك الحقيقي وراء القمة فلم يكن سوى الدم الذي سال بغزارة في شوارع غزة، ليجبر المجتمع الدولي على النظر إلى ما حاول تجاهله طويلًا.

 

حضور بلا روح: القمة التي فقدت جوهرها

رغم كل العناوين البراقة عن "إحياء السلام" و"بناء مستقبل جديد للمنطقة"، سرعان ما تبيّن أن القمة لا تناقش السلام بقدر ما تدير الأزمة. فقد انحصرت المداولات في ثلاث نقاط محدودة: تثبيت وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى والرهائن، ثم تمويل إعادة إعمار غزة.

لكن أحدًا لم يتجرأ على طرح الأسئلة الجوهرية: ماذا عن الاحتلال؟ أين حل الدولتين؟ ما مصير القدس واللاجئين؟ كانت القاعة مليئة بالقادة، لكن صوت العدالة كان غائبًا. فالقضية الفلسطينية عادت إلى الطاولة، نعم، لكن لا بإرادة القادة ولا بجهود الدبلوماسية، بل لأن الدم فرض حضوره على الجميع.

 

ترامب.. رجل العرض في قمة الدم

للافت أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي تصدّر القمة كـ"عرّاب للسلام"، بدا وكأنه جاء لكتابة مشهد سياسي يخدم صورته أكثر مما يخدم ضحايا الحرب.

فمنذ اللحظة الأولى لظهوره، تعامل ترامب مع القمة كما لو كانت منصة انتخابية جديدة؛ تحدث عن "إنجازات تاريخية"، وعن "رؤية واقعية للسلام"، متجاهلًا تمامًا أن سياسته السابقة هي التي ساهمت في تأجيج الصراع.

كيف يمكن لرجل نقل سفارة بلاده إلى القدس، وقطع المساعدات عن الأونروا، وأعطى الغطاء الكامل للسياسات الإسرائيلية، أن يتحدث اليوم عن "حل دائم"؟ كان خطابه أقرب إلى استعراضٍ للزعامة الأمريكية، منه إلى محاولة صادقة لإنقاذ ما تبقّى من فرص السلام.

لقد بدا ترامب في شرم الشيخ كما كان دومًا: رجل صفقات، لا رجل مبادئ. يتحدث عن "الاستقرار الإقليمي" وهو يدعم السياسات التي فجّرته، ويتباهى بـ"نجاح المفاوضات" فيما يتجاهل جذور المأساة التي صنعها الاحتلال.

 

 الدم وحده أعاد فلسطين إلى الخريطة

القمة لم تأت من رغبة في إنهاء الصراع، بل كردّ فعل اضطراري على مشاهد الدمار المروّعة في غزة. فبعد حرب استمرت عامين وخلّفت آلاف القتلى والمصابين ومئات الآلاف من النازحين، لم يعد بإمكان أي دولة، مهما كانت انحيازاتها، أن تتجاهل الواقع.

لقد أجبر نزيف الدم العالم على الاعتراف بأن تجاهل فلسطين لم يعد ممكنًا، وأن الحلول الترقيعية لن تضمن أمن إسرائيل ولا استقرار المنطقة.

وهنا تكمن مأساة المشهد: أن الطريق إلى شرم الشيخ لم يُعبد بالاتفاقيات ولا بالدبلوماسية، بل بجثث الأطفال وأشلاء البيوت المهدّمة. كانت الحرب هي "الصدمة" التي أيقظت الضمير الدولي الغائب، لا نداءات الحقوق ولا قرارات الأمم المتحدة.

 

قمة بلا سلام

واخيرا  خرجت القمة ببيان فضفاض لم يقدّم سوى وعود متكررة عن “تعهدات مالية لإعادة الإعمار” و“التزام بدعم العملية السياسية”. أما الفلسطينيون، فقد خرجوا مرة أخرى من القاعة حاملين الخيبة ذاتها: لا ضمانات سياسية، لا جدول زمني، ولا حتى اعتراف بمسؤولية الاحتلال عن المأساة.

لقد أراد ترامب أن يسوّق القمة كإنجاز شخصي، لكن ما خرج منها لم يكن سوى دليل جديد على عجز النظام الدولي عن التحرك قبل أن تفرض الدماء مسار الأحداث.

قمة شرم الشيخ كانت لحظة اعتراف متأخر بأن فلسطين لا تُذكر إلا عندما تتحول إلى مأساة، وأن العالم لا يصغي إلا لصوت الانفجارات. أما ترامب، فقد أثبت مجددًا أن واشنطن لا تصنع السلام إلا على مقاس القوة، وأنها لا ترى في معاناة الفلسطينيين سوى مشهد إضافي في عرض سياسي طويل.