يشهد سوق الأرز المصري في الأسابيع الأخيرة حالة من الغليان الشعبي والجدل الاقتصادي الحاد، بعد القفزات الجديدة في الأسعار التي فاجأت المستهلكين رغم إعلان الحكومة تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحصول. فبينما تؤكد التصريحات الرسمية أن مصر تمتلك فائضًا كبيرًا يكفي للسوق المحلي ويتيح التصدير، إلا أن الواقع يكشف اختلالاً صارخًا في إدارة ملف الأسعار الزراعية، ما فتح الباب أمام انتقادات حادة للحكومة واتهامات بسوء التخطيط وغياب الرقابة.

 

أزمة مفتعلة في سوق مكتفٍ ذاتيًا

تاريخيًا، يُعتبر الأرز أحد أهم السلع الاستراتيجية في مصر، ومحصولًا يرتبط مباشرة بالأمن الغذائي للمواطنين. ورغم أن الإنتاج المحلي يغطي الاستهلاك السنوي بالكامل، بل ويتجاوز الحاجة أحيانًا، فإن الأسعار ارتفعت خلال الأشهر الأخيرة بنسب تتراوح بين 30 و50%، دون مبرر منطقي من ناحية العرض والطلب.

ويرى اقتصاديون أن هذه الأزمة ليست نتاج نقص حقيقي في المعروض، بل نتيجة فشل حكومي في ضبط الأسواق وتطبيق سياسات فعالة لدعم الفلاح والمستهلك معًا. فبدلاً من إدارة التوازن بين تكلفة الإنتاج وسعر البيع، تُرك الملف بيد مجموعة من رجال الأعمال والمحتكرين الذين يتحكمون في التسعير، وسط غياب واضح لآليات الرقابة أو الشفافية.

 

تبريرات رسمية مثيرة للجدل

في محاولة لتهدئة الرأي العام، خرج رجب شحاتة، رئيس شعبة الأرز باتحاد الصناعات، بتصريحات قال فيها إن الزيادة الأخيرة ليست "رفعًا للأسعار" بل "تصحيح للوضع القائم"، مبررًا ذلك بأن أسعار الشعير السابقة كانت "ظالمة للفلاح" وغير مجزية اقتصاديًا، حيث كانت أقل من تكلفة الإنتاج التي تصل إلى نحو 13,500 جنيه للطن.

لكن هذا التبرير لم يقنع الشارع ولا الخبراء. فالمستهلك يرى أن التصحيح الحقيقي لا يكون برفع الأسعار على حساب المواطنين، بل بإصلاح منظومة الدعم وتطوير سلاسل الإنتاج والتوزيع. كما تساءل كثيرون عن سبب غياب خطة حكومية تضمن للفلاح ربحًا عادلًا دون أن تتحول السلعة إلى عبء جديد على الأسر المصرية التي أنهكها التضخم وارتفاع الأسعار في مختلف القطاعات.

 

حكومة غائبة عن إدارة السوق

تكشف أزمة الأرز عن غياب واضح لدور الدولة في ضبط الأسعار الاستراتيجية، رغم أنها طالما تعهدت بحماية الفلاح والمستهلك معًا. فبدلاً من دعم الزراعة أو توفير أدوات تسويقية عادلة، تُرك السوق للعرض والطلب في ظروف مختلة أساسًا بفعل المضاربة والاحتكار.

ويرى خبراء أن الحكومة أخفقت في تحقيق الشفافية في آليات التسعير، إذ لا توجد بيانات واضحة حول تكاليف النقل والتخزين وهوامش ربح التجار، ما جعل الأسعار النهائية تتضاعف دون تفسير. كما أن ضعف الرقابة على الأسواق والمخازن ساهم في خلق فجوة مصطنعة بين سعر الشراء من الفلاح وسعر البيع للمستهلك.

إضافة إلى ذلك، فإن تدهور القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع معدلات التضخم – التي تجاوزت في بعض التقديرات 40% – جعلت من أي زيادة جديدة في أسعار الغذاء تهديدًا مباشرًا للاستقرار الاجتماعي. فالأسرة المصرية التي كانت تعتمد على الأرز كسلعة أساسية ورخيصة لم تعد قادرة على تحمّل تكلفته اليومية.

 

فشل في السياسات الزراعية والدعم

تأتي هذه الأزمة لتؤكد مجددًا فشل السياسات الزراعية الحكومية في دعم الإنتاج المحلي بشكل مستدام. فبينما تعلن الحكومة عن مبادرات لدعم الفلاح، يبقى الدعم الحقيقي محصورًا في الشعارات، بينما تتراكم الديون على صغار المزارعين الذين يواجهون ارتفاع أسعار الأسمدة والطاقة والمياه دون أي حماية.

ويرى محللون أن الحل لا يكمن في "تصحيح الأسعار" بل في تصحيح منظومة الإدارة نفسها، من خلال ضمان تسعير عادل للفلاحين، وتفعيل الرقابة على التجار، وإعادة توجيه الدعم الحكومي نحو الإنتاج لا التصدير. كما دعا الخبراء إلى ضرورة توسيع دور جهاز حماية المستهلك وفرض ضوابط على تداول السلع الاستراتيجية لمنع التلاعب.

سياسيًا، يُعد ملف الأرز اختبارًا حقيقيًا لقدرة الحكومة على تحقيق التوازن بين مصالح الفلاحين والمستهلكين في ظل أزمات اقتصادية خانقة. فاستمرار تجاهل شكاوى المواطنين قد يفاقم الاحتقان الاجتماعي، خاصة في ظل الشعور العام بأن الحكومة تنحاز لرجال الأعمال والمحتكرين على حساب الطبقات الفقيرة.

وفي الختام، تبقى تصريحات المسؤولين بأن "ارتفاع الأسعار تصحيح للوضع" تبريرًا غير مقنع لأزمة هي في جوهرها نتيجة سوء إدارة مزمن. وإذا لم تتدخل الحكومة سريعًا بسياسات عادلة وشفافة، فإن ما بدأ بأزمة سعر الأرز قد يتحول إلى أزمة ثقة شاملة في قدرة الدولة على إدارة الاقتصاد وتأمين الغذاء في بلدٍ يعاني أصلاً من هشاشة مالية وتضخم متصاعد.