في وقتٍ تتوالى فيه فضائح نهب وتهريب الآثار المصرية إلى الخارج، وتتكشف صفقات بيع قطع أثرية نادرة لمتحف "اللوفر أبو ظبي"، يواصل نظام عبد الفتاح السيسي العبث بالموروث الحضاري لمصر، بتحويل الحرم الأثري والمعابد التاريخية إلى ساحات صخب وضوضاء تحت لافتة “الفعاليات الفنية والسياحية”، دون أدنى اعتبار لقدسية هذه المواقع أو قيمتها التاريخية.

وبينما أعلنت البعثة الأثرية البريطانية مؤخرًا عن سرقة جديدة في منطقة سقارة، كشفت السلطات الأميركية عن ضبط تماثيل مصرية نادرة خرجت من البلاد باعتبارها “تحف منزلية”، من بينها تمثال جنائزي بحجم طفل من عصر الدولة القديمة، تزداد المخاوف من أن تتحول حماية التراث المصري إلى مجرد شعار فارغ، فيما يستمر النزيف الحقيقي خلف الكواليس.

 

دعوى قضائية ضد "مهزلة الأهرامات"

في هذا السياق، أعلن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عن رفع دعوى قضائية جديدة أمام محكمة القضاء الإداري، للمطالبة بوقف ما وصفه بـ"الأنشطة والفعاليات المخالفة" داخل منطقة أهرامات الجيزة، بعد أن تحولت إلى منصة للحفلات الصاخبة والفعاليات التجارية التي تهدد سلامة الموقع الأثري الأشهر في العالم.

وأكد المركز في بيانه أن الدعوى جاءت نيابةً عن عالمة المصريات مونيكا حنا، والمرشدة السياحية سالي صلاح الدين، والمحامي بالنقض مالك عدلي، ضد كلٍّ من وزير السياحة والآثار، والأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، ومحافظ الجيزة، بسبب تقاعسهم عن حماية الموقع.

 

ذبذبات تهدد الأهرامات

طالبت الدعوى بوقف الحفلات الليلية التي تُستخدم فيها معدات صوتية قوية تُحدث ذبذبات قد تؤثر على البناء الحجري للأهرامات، إلى جانب استخدام إضاءات ليزرية مخالفة للمعايير الدولية الخاصة بحماية المواقع الأثرية.

كما حذّرت من السماح بأعمال إنشاء مؤقتة أو دائمة داخل الحرم الأثري، لما تمثله من خطر جسيم على استقرار التربة والبنية التاريخية للموقع، مؤكدة أن هذه الانتهاكات تهدد سلامة واحدة من أعظم المعالم البشرية التي صمدت آلاف السنين.

 

من حماية التراث إلى استثماره تجاريًا

منذ أن أسندت الحكومة إدارة منطقة الأهرامات إلى شركة خاصة، بات الموقع الأثري يخضع لمنطق الربح التجاري أكثر من كونه مزارًا تراثيًا.

وتُقام الحفلات الموسيقية والعروض الضخمة بصفة متكررة، وسط ضوضاء وإضاءة مكثفة، ما اعتبره خبراء الآثار “إهانة للتراث الإنساني” واعتداءً على حرمة المكان الذي يُعدّ من عجائب الدنيا السبع.

ويرى مراقبون أن هذه الممارسات تمثل انحرافًا خطيرًا عن فلسفة الحفاظ على التراث، وتحول المواقع الأثرية إلى "مولات سياحية" تُدار بعقلية المقاولات، بدلًا من أن تكون متاحف مفتوحة تحفظ التاريخ الإنساني.

 

مسؤولية الدولة وحق الأجيال القادمة

شدّد المركز الحقوقي على أن الدولة المصرية، بموجب الدستور وقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983، وأحكام اتفاقية اليونسكو لحماية التراث العالمي، ملزمة باتخاذ التدابير الكفيلة بصون المواقع الأثرية.
واعتبر أن تجاهل الجهات الرسمية لهذه الانتهاكات يمثل خرقًا لمبدأ المشروعية وإهدارًا للمال العام، وتشويهًا لصورة مصر أمام المجتمع الدولي.

وطالبت الدعوى بإصدار حكم عاجل بوقف كافة الفعاليات والحفلات داخل الحرم الأثري، وإعادة تأهيل المنطقة وفق المعايير الدولية، إضافة إلى مراجعة العقود المبرمة مع الشركات المنظمة لتلك الفعاليات التي وُصفت بأنها “صفقات فساد مقنّعة”.

 

عبث السيسي بالهوية المصرية

يرى مراقبون أن هذه الممارسات ليست حوادث منفصلة، بل تعكس سياسات السيسي الهادفة لتفريغ الهوية المصرية من مضمونها الحضاري، عبر بيع وتهريب الآثار تارة، وتدنيس حرمة المواقع المقدسة تارة أخرى، في مقابل “لقطات دعائية” يسوّق بها نظامه للمجتمع الدولي.

فبينما تُسرق آثار مصر علنًا وتُعرض في متاحف العالم، تُحوّل الأهرامات والمعابد إلى قاعات أفراح تملؤها الموسيقى والضوضاء، لتختزل حضارة سبعة آلاف عام في مشهد عبثي يعكس واقع الانهيار الثقافي والإداري تحت حكمٍ لا يرى في التاريخ إلا وسيلة للربح أو الدعاية.

ويحذر خبراء التراث من أن استمرار هذا النهج سيؤدي إلى تآكل الهوية التاريخية لمصر وفقدانها لمكانتها كـ"متحف مفتوح للعالم"، وهو ما يجعل الأجيال القادمة أمام فراغ حضاري لا يمكن تعويضه.

في المقابل، تظل الأسئلة معلّقة: من يحاسب من يعبث بالأهرامات؟ ومن يصون ذاكرة وطنٍ تُباع أحجاره في المزاد وتُستباح معالمه باسم "التنمية السياحية"؟