في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل أروقة الصناعة وأوساط المستهلكين، فرضت وزارة الاستثمار والتجارة الخارجية رسوم إغراق بنسبة 16.2% على واردات خام الحديد “البليت”، بحد أدنى 4613 جنيهًا للطن.
القرار، الذي رُوِّج له باعتباره “حماية للصناعة الوطنية”، كشف سريعًا عن وجهه الآخر: زيادة مباشرة في تكاليف الإنتاج، وارتفاع جديد في الأسعار، وتضييق على مصانع الدرفلة الصغيرة والمتوسطة التي تشكّل شريانًا حيويًا في سوق الحديد المحلي.
ارتفاع الأسعار.. والمستهلك الضحية الأولى
بعد أيام قليلة من تطبيق القرار، قفزت أسعار خام البليت في السوق المحلية بأكثر من 3000 جنيه للطن لتصل إلى 21 ألف جنيه، وفق ما أكده إسلام الجيوشي، الرئيس التنفيذي لمجموعة الجيوشي للصلب، الذي أوضح أن هذه الزيادة دفعت شركته إلى رفع سعر المنتج النهائي بنحو 2000 جنيه إضافية.
يأتي هذا في وقت تتراوح فيه أسعار حديد التسليح بين 33 و38.5 ألف جنيه للطن تسليم المصنع، ما يعني أن المستهلك النهائي سيجد نفسه مجددًا أمام موجة غلاء جديدة لا علاقة لها بتحسن الأجور أو بزيادة الطلب، بل نتيجة قرارات حكومية تفتقر إلى التوقيت والعدالة الاقتصادية.
الجيوشي حذّر من أن السوق تعاني من فجوة بين حجم الطلب والطاقة الإنتاجية لمصانع البليت القائمة، إذ لا يتجاوز الإنتاج المحلي نصف احتياجات السوق التي تبلغ 10 ملايين طن سنويًا، مؤكدًا أن “القرار جاء قبل تجهيز البدائل”، مشيرًا إلى أن وزارة التجارة والصناعة منحت رخصًا جديدة لإنتاج 3.7 مليون طن سنويًا من البليت، لكنها لن تدخل حيز التشغيل قبل عامين على الأقل.
مصانع الدرفلة في مرمى الرسوم
من جانبه، أكد حسن المراكبي، رئيس مجلس إدارة مجموعة المراكبي للصلب، أن القرار يمثل تهديدًا مباشرًا لمعدلات تشغيل مصانع الدرفلة التي تعتمد على استيراد البليت كخامة أساسية، ما يعني ارتفاعًا كبيرًا في تكاليف الإنتاج وتراجعًا في الربحية، وإن كان قد توقّع أن يكون أثره محدودًا على الأسعار الإجمالية للحديد بسبب ضعف الطلب المحلي أصلًا.
المراكبي أوضح أن نحو 80% من المصانع المنتجة تعتمد على البليت المحلي بالفعل، لكن ذلك لا يقلل من خطورة فرض رسوم جديدة في ظل أزمة سيولة وارتفاع أسعار الغاز والفائدة، التي وصفها بأنها “العوامل الأكثر تأثيرًا على الأسعار، لا المنافسة الخارجية كما تزعم الحكومة”.
سياسات حمائية بلا عدالة سوقية
الحكومة تقول إنها تهدف إلى “تعزيز الصناعة الوطنية” و“تقليل الواردات” التي تجاوزت قيمتها مليار دولار العام الماضي، بحسب محمد حنفي، رئيس غرفة الصناعات المعدنية باتحاد الصناعات، الذي أكد أن القرار سيؤدي إلى تشغيل المصانع المتكاملة بكامل طاقتها بعد سنوات من العمل الجزئي.
لكن القراءة النقدية تُظهر أن المستفيد الحقيقي هم كبار المنتجين والمصانع المتكاملة التي تستحوذ على نحو 80% من السوق، فيما تتحمل مصانع الدرفلة الصغيرة، التي تمثل 20% فقط من السوق، العبء الأكبر. تلك المصانع التي تشكّل متنفسًا للمنافسة وتوفر آلاف فرص العمل تجد نفسها اليوم مهددة بالإغلاق أو بخفض التشغيل.
تناقض حكومي صارخ
المفارقة أن القرار جاء بعد أسابيع فقط من إعلان الحكومة في مؤتمر صحفي منتصف أغسطس الماضي عن مبادرة لخفض أسعار السلع والمنتجات، كشف خلالها أمين عام اتحاد الغرف التجارية علاء عز أن شركات الحديد تعتزم خفض أسعار طن حديد التسليح بنحو 2200 جنيه بنسبة 6%.
لكن الواقع جاء عكس التصريحات تمامًا؛ إذ ثبّتت شركات الحديد المتكاملة أسعار منتجاتها للشهر العاشر على التوالي، بل وارتفعت بعد فرض الرسوم الجديدة، في إشارة واضحة إلى فشل سياسات الحكومة في ضبط السوق أو حماية المستهلك.
النتيجة: احتكار مقنّن وعبء متجدد
في المحصلة، لم يحقق القرار ما رُوّج له من “حماية الصناعة”، بل أدى إلى تعميق الاحتكار وتعزيز موقع كبار المنتجين الذين يسيطرون على السوق، بينما تُركت المصانع الصغيرة والمستهلكون يواجهون كلفة القرارات الحكومية.
تحت لافتة “دعم الصناعة الوطنية”، تُمرّر الحكومة رسومًا جديدة تعيد إنتاج الأزمة بدلًا من حلّها. فبدلًا من توسيع قاعدة الإنتاج وتحفيز التنافسية، اختارت الدولة الطريق الأسهل: فرض مزيد من الرسوم ورفع الأسعار، لتتحول “سياسات الحماية” إلى أداة لزيادة الأعباء على المواطنين وخراب المصانع الصغيرة التي كانت تُشكّل يومًا ما عصب الصناعة في مصر.