لم يعد الصراع اليوم محصوراً في ميادين الحرب والسلاح، بل انتقل إلى مساحات أخطر وأكثر تأثيراً: الفضاء الرقمي. في هذا السياق، كشف القرار الأميركي الأخير بنقل ملكية عمليات تطبيق تيك توك في الولايات المتحدة إلى الملياردير اليهودي الأميركي لاري إليسون، مؤسس شركة "أوراكل"، كيف تتحكم السياسة بالاقتصاد الرقمي، وكيف يتشابك نفوذ المال مع الأجندات السياسية الداعمة لإسرائيل.
 

ضغوط ترامب واستجابة للصهيونية
قرار إدارة ترامب لم يأتِ من فراغ، بل جاء بعد ضغوط مباشرة على الصين لإجبارها على التخلي عن سيطرتها على عمليات تيك توك في السوق الأميركية. المثير أن المستفيد الأكبر هو إليسون، أحد أكبر المانحين للجيش الإسرائيلي، وأحد أعمدة النفوذ الاقتصادي – السياسي في واشنطن.

وبحسب تقارير، فإن هذه الخطوة لم تكن مجرد إجراء أمني أميركي كما جرى تسويقه، بل استجابة عملية لمطالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي حذّر مراراً من تأثير تيك توك على "عقول الشباب" بسبب تداول مقاطع تكشف جرائم الاحتلال في غزة والضفة.
 

إعادة برمجة الوعي العالمي
الخطوة الأميركية تعكس إدراكاً إسرائيلياً عميقاً لقوة المنصات الرقمية في تشكيل الرأي العام العالمي. ملايين المقاطع التي نشرها ناشطون فلسطينيون وعرب عبر تيك توك خلال العدوان على غزة، أحرجت رواية الاحتلال، وفضحت جرائمه على نطاق غير مسبوق. لذلك، لم يكن غريباً أن يسعى نتنياهو وأنصاره لإعادة هندسة خوارزميات التطبيق بحيث تحدّ من انتشار هذه المشاهد وتروّج بالمقابل لسردية إسرائيلية مصطنعة.

هكذا تتحول المنصات الرقمية إلى سلاح استراتيجي: تبرمج العقول، وتوجّه الوعي، وتتحكم في المزاج العالمي. وفي حين يدرك الاحتلال هذه الحقيقة ويضخ الأموال لضمان السيطرة عليها، يقف العالم الإسلامي متفرجاً، عاجزاً عن مجرد التفكير في تأسيس بدائل.
 

أين العرب من المعركة الرقمية؟
السؤال المؤلم هنا: أين هي الصناديق السيادية الخليجية والعربية، التي تمتلك مئات المليارات من الدولارات وتستثمر في النوادي الأوروبية وشركات السيارات والعقارات الفارهة، لكنها لا تفكر في تأسيس منصة رقمية واحدة تخدم قضايا الأمة؟
أين هم رجال الأعمال العرب الذين راكموا الثروات من خيرات شعوبهم، ثم انصرفوا إلى تلميع صورتهم الشخصية أو شراء الولاءات السياسية، بدلاً من توجيه جزء يسير من أموالهم إلى حماية الوعي العام والدفاع عن الحقيقة؟
وأين هي القيادات التكنولوجية العربية، التي تكتفي بدور المستهلك لمنتجات الغرب، بدل أن تقود مبادرات لبناء روايتنا الرقمية المستقلة؟
 

العدو لا ينام… فماذا نفعل نحن؟
بينما لا يتوقف اللوبي الإسرائيلي عن البحث عن أدوات جديدة للنفوذ، يبقى حال العرب والمسلمين غارقاً في التبعية والاستهلاك. لا مشاريع إعلامية عابرة للحدود، ولا منصات اجتماعية منافسة، ولا استراتيجيات موحدة لمواجهة حملات التضليل.
بل الأخطر أن بعض الحكومات العربية نفسها تلاحق الناشطين وتغلق الحسابات وتفرض الرقابة، بدلاً من الاستثمار في بناء أدوات سيادية للوعي الرقمي. إنها مفارقة صادمة: العدو يصنع روايته ويغزو بها العقول، بينما نحن نُحاصر روايتنا بأيدينا.
 

الاستثمار في الوعي ليس ترفاً
إن الاستثمار في منصات بديلة لم يعد ترفاً، بل فرض وقت. في عالم تتحكم فيه الخوارزميات بميول الناس وخياراتهم وحتى مواقفهم السياسية، يصبح الإهمال العربي والإسلامي لهذه الجبهة نوعاً من الانتحار الحضاري.
لو أن جزءاً بسيطاً من الأموال التي تُنفق على المهرجانات الترفيهية أو شراء نجوم الكرة صُرف على بناء منصات تواصل أو شبكات إعلامية حديثة، لكان للعالم الإسلامي اليوم حضور قوي يواجه السرديات المفبركة ويدافع عن قضاياه.

وفي النهاية فقضية تيك توك ليست مجرد صفقة اقتصادية بين أميركا والصين، بل هي معركة على من يملك رواية العالم. إسرائيل فهمت الدرس، فضمنت أنصارها السيطرة على المنصات المؤثرة. أما العالم العربي والإسلامي، فما زال غائباً عن المشهد، مكتفياً بالتفرج على وعي شبابه وهو يُعاد برمجته من الخارج.

كما أن المعركة الحقيقية لم تعد فقط في ميادين القتال أو على طاولات المفاوضات، بل في الفضاء الرقمي حيث تُصنع القناعات وتُحدد مصائر الشعوب. ومن لا يستثمر في الوعي، سيجد نفسه في النهاية مجرد تابع لغيره، مهما امتلك من ثروات أو موارد.