في مشهد أثار جدلاً واسعاً بين الأوساط الثقافية والدينية، تم نقل رفات الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الأسبق وأحد أعلام الفكر الإسلامي في القرن العشرين، إلى مقابر مدينة 15 مايو، وذلك بعد أن ظلت مقبرته في منطقة الإمام الشافعي شاهداً على تاريخ طويل ومكانة دينية وعلمية بارزة.
الخطوة جاءت في إطار توسعات وإزالات تنفذها السلطات ضمن ما يُعرف بخطط "تطوير القاهرة"، لكنها قوبلت بموجة غضب وانتقادات واسعة، خاصة مع توسع الجرافات في هدم أجزاء من المقابر التاريخية بمنطقة الإمام الشافعي.

وفي النصف الأول من أغسطس الماضي، طالت أعمال الهدم في مدافن السيدة نفيسة -المستمرة منذ يناير الماضي- مقبرتي شيخي الأزهر السابقين مصطفى المراغي وحسن مأمون، إضافة إلى مقبرة درية شفيق، مؤسسة أول حزب نسائي في مصر، وهو حزب بنت النيل الذي أُنشئ عقب ثورة يوليو 1952.
 

مقبرة تاريخية تُمحى
الشيخ المراغي الذي تولى مشيخة الأزهر مرتين (1928 – 1929، ثم 1935 – 1945) عُرف بمواقفه الإصلاحية، وكان رمزاً للاستقلالية الفكرية والدينية. مقبرته بمنطقة الإمام الشافعي لم تكن مجرد مدفن عادي، بل جزء من تراث معماري وروحي يمتد قروناً.
إلا أن قرار الإزالة لم يراعِ هذه الرمزية، فالجرافات دخلت لتزيل ما تبقى من جدران تحمل ذاكرة شخصية ودينية لا تُقدَّر بثمن.
 

صرخة العائلة
الكاتبة منى أبوستيت، حفيدة الشيخ المراغي، كتبت بمرارة عن مشهد نقل رفات جدها، ووصفت كيف أن "البلدوزر لا يفرق بين مقام علمي وتاريخي وبين قبر مجهول"، مشيرة إلى أن العائلة لم تتلقَّ سوى إشعارات مفاجئة بضرورة الإخلاء. واعتبرت أن ما يحدث "طمس لتاريخ مصر ورموزها"، مؤكدة أن نقل الرفات إلى 15 مايو، رغم كونه إجراءً عملياً، لا يعوض عن فقدان القيمة التاريخية والمعمارية للمقبرة الأصلية.

وأضافت حفيدة الشيخ المراغي: "اللي حصل حصل خلاص، رفات العائلة كلها اتنقلت لمقابر بديلة وفرتها المحافظة في مدينة 15 مايو". وأضافت بحسرة: "تخيل الشيخ المراغي مدفون هنا من 1945، ودلوقتي ييجي يتشال عضم في أوفة ويتنقل إلى 15 مايو".
 

بلدوزر الإزالات يواصل تقدمه
منطقة الإمام الشافعي، التي تضم مقابر شخصيات دينية وثقافية بارزة، تشهد موجة إزالات متسارعة في إطار مشروعات الطرق والكباري. المشهد بدا للكثيرين صادماً: بلدوزرات تقتحم أحواشاً قديمة، وتقتلع شواهد قبور بُنيت قبل مئات السنين. ويرى مؤرخون أن هذه السياسات لا تراعي البعد التراثي للقاهرة التاريخية، وتتعامل مع المقابر كمساحات عقارية فارغة، وليست سجلاً حياً لذاكرة الأمة.

تزامنًا مع الإزالات في السيدة نفيسة، استؤنفت أعمال الهدم في مقابر الإمام الشافعي أيضًا. وبحسب أحد المهتمين بمتابعة أوضاع المقابر التراثية في المنطقة، فقد تعهدت الحكومة بفك ثلاث قباب من مقابر الإمام الشافعي وإعادة تجميعها لاحقًا، نظرًا لقيمتها التاريخية.

تشمل هذه القباب، قبة مقبرة قاسم محمد باشا، قائد الأسطول المصري في حرب الحبشة بعهد محمد علي، وقبة مقبرة حسين باشا يسري، سكرتير عام مجلس شورى القوانين، ومقبرة المستشار أحمد الخازندار، وكيل محكمة الاستئناف الأسبق، الذي اغتيل عام 1948.

كما يشمل المخطط حوش الدرمللي -مقبرة الأمير محمد فاضل باشا الدرمللي- المبني عام 1868 على مساحة نحو 900 متر، ويضم 7 مدافن رئيسية و20 فرعية.
وأوضح المصدر أن القباب ستُنقل وتُعاد تجميعها بجوار قبة ابن عطاء الله السكندري في المقطم، بعد مفاوضات طويلة بين الهيئة الهندسية وأسر المتوفين، على أن تتحمل الأسر تكاليف تجميل الواجهات.
لكن في المقابل، فُقدت مقبرة بارزة هي مقبرة يحيى إبراهيم، رئيس وزراء مصر عام 1923، إذ تم هدمها بالكامل، بحسب المصدر.
 

بين التطوير ومحو التاريخ
الحكومة تقول إن الهدف هو "التطوير العمراني"، لكن منتقدين يعتبرون أن ما يحدث أقرب إلى "محو للتاريخ"، خاصة حين يتعلق بقبور شخصيات بحجم الشيخ المراغي أو بمناطق مسجلة كجزء من التراث الإسلامي للعاصمة. ويؤكد ناشطون أن هناك بدائل للتوسعة لا تتطلب إزالة رفات الموتى وتشويه هوية المكان.

يبقى نقل رفات الشيخ المراغي إلى مقابر 15 مايو مثالاً صارخاً على التناقض بين خطاب "التطوير" الرسمي، وبين واقع بلدوزر الإزالات الذي يقتلع ذاكرة المصريين من جذورها. وبينما تحاول العائلات التمسك بما تبقى من إرث أجدادها، يظل السؤال مطروحاً: أي مستقبل لمدينة بلا ماضي؟