معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري. أستاذ مساعد ورئيس برنامج حقوق الإنسان في معهد الدوحة للدراسات العليا
صدر تقرير استقصائي مهم قبل أيام بعنوان "قتلوا بدم بارد" عن مؤسّسة سيناء لحقوق الإنسان بشأن التداعيات الإنسانية للمواجهات التي اندلعت بين السلطات المصرية وتنظيم أنصار بيت المقدس، والذي عرف لاحقًا بولاية سيناء بعد إعلان ولائه لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بين عامي 2013 و2022. قليل من التقارير الحقوقية والإعلامية يسلط الضوء على ما يجري في شبه جزيرة سيناء، وقد ركز هذا التقرير على عمليات القتل خارج نطاق القانون والاختفاء القسري في هذه المنطقة، ونجم عنها وجود مقابر جماعية سرّية، يكشف عنها التقرير أول مرّة. وهو يجسّد تطوّر جيل جديد ومتنوّع من الجماعات الحقوقية المصرية خارج البلاد في العقد الأخير، فقد تشكلت في المهجر مبادرات جديدة وخلاقة في العمل الحقوقي استفادت من مناخ حرية التنظيم والتعبير، والإمكانات الفنية في البلدان الغربية لتطوير العمل الحقوقي المصري. واحدة من هذه المبادرات كانت مؤسّسة سيناء لحقوق الإنسان والتي تخصّصت في متابعة شأن شبه جزيرة سيناء، معتمدة على شبكة من العلاقات الواسعة التي تربط مؤسسيها بالميدان داخل سيناء. لسنواتٍ طويلة، فرضت السلطات المصرية جدارًا عازلًا مستتبًا على ما عرفه المصريون عن أحوال سيناء وأهل سيناء، وعلاقتهم بالسلطة المصرية، خصوصًا منذ عام 2013 مع تصاعد نشاط الجماعات الإسلامية المسلحة هناك، وإعلان السلطات المصرية الحرب الشاملة على الإرهاب في سيناء.
تعد سيناء المنطقة الجغرافية الأكثر حساسية من الناحيتين، الأمنية والاستراتيجية، في مصر، خصوصًا في الوقت الراهن في سياق الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزّة، ومخاطر تهجير أهالي غزة سيناء. ونظرًا إلى طبيعتها الجغرافية الشاسعة والمعقدة، وعزلتها الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية عن باقي مناطق مصر فقد أصبحت في العقود الأخيرة حاضنة للجماعات الإسلامية المسلحة، ما دفع السلطات المصرية إلى التعامل مع المنطقة بمقاربة أمنية حازمة تقوم على اعتبار المنطقة تمثل مصدرًا لمخاطر وجودية للدولة المصرية تبرّر الغلاظة الأمنية والعسكرية خارج إطار القانون والمحاسبة ورقابة الإعلام والرأي العام.
من الصعب على الصحافيين المصريين أو الأجانب أو المراقبين الحقوقيين زيارة سيناء، والتواصل مع أهلها وتتبع الوضع السياسي والحقوقي في الميدان هناك. بل إن نشر أخبار سيناء غير الأخبار الرسمية الصادرة عن مؤسّسات الدولة عادة ما يعرض فاعليه للمساءلة القانونية والحبس. في هذا السياق، تعرّضت مؤسّسة سيناء ومؤسّسوها ومديروها لسلسلة مكثفة من التهديدات والحملات الإعلامية التحريضية في القنوات التلفزيونية والصحافة القريبة من الدولة.
من أهم ما كشف عنه تقرير مؤسّسة سيناء هو وجود مقبرة جماعية جنوب مدينة العريش، يُثبت التقرير أنها تضم معتقلين جرى قتلهم خارج نطاق القانون ودفنهم في هذه المقبرة بشكل سرّي. وقد اعتمدت المؤسسة على شهادات تنشر لأول مرة لاثنين من عناصر المليشيات، والتي يعتمد عليها الجيش في سيناء منذ عام 2014 في مواجهة الجماعات المسلحة. وقد شارك أصحاب هذه الشهادات في إحضار المعتقلين لتلك المقبرة قبل تصفيتهم. اعتمدت المؤسّسة، بالإضافة إلى هذه الشهادات، على صور ومقاطع فيديو ومشاهدات ميدانية لتلك المقبرة، وتصوير رفات بشري ظهر على سطح التربة يعود إلى 36 شخصًا قتلوا ودفنوا بكامل ملابسهم المدنية. وقد جرت دراسة (وتحليل) المواد البصرية وصور الأقمار الصناعية للمنطقة سنواتٍ طويلةً لكشف التغييرات التي لحقت بها، والأنشطة العسكرية التي تمت في الموقع. ومن أبرز المفارقات التي كشف عنها التقرير، والتي تؤكد سقوط أعداد كبيرة من المدنيين ضحايا لعمليات قتل خارج نطاق القانون في سيناء خلال ما تُسمّى "الحرب على الإرهاب"، تلك الفجوة الواسعة بين الأرقام الضخمة التي كانت تعلنها السلطات المصرية حول أعداد "الإرهابيين" الذين قُتلوا في اشتباكات مسلحة وفق البيانات الرسمية، وبين تقديرات مراكز أبحاث دولية موثوقة لمجمل مقاتلي تنظيم ولاية سيناء، وهي تقديرات كانت أقل بكثير من الأرقام الرسمية، ما يرجح أن ضحايا كثيرين كانوا في صفوف المدنيين.
يكشف تقرير مؤسّسة سيناء، ومعه قلة من التقارير الحقوقية المصرية والدولية التي صدرت عن الأوضاع في سيناء خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، عن الكلفة الاجتماعية الباهظة لإطلاق يد الأجهزة الأمنية في التعامل مع صراعات ذات طبيعة سياسية وجغرافية معقدة، من دون رادعٍ أو مساءلة. وتؤكّد هذه التقارير أن إطلاق مسار شامل للحقيقة والعدالة وجبر الضرر في سيناء يمثل شرطًا جوهريًّا لتحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة، لا يقل أهمية عما تحتاجه من تنمية اقتصادية وبشرية شاملة.