في لحظة فارقة من عمر القضية الفلسطينية، خرج رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي بتصريحات صادمة خلال اجتماع حول ما سُمّي بـ"اليوم التالي في غزة"، مؤكدًا أن مصر تدعم وجود ضمانات أمنية للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، بل وتذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى سحب السلاح من حركة حماس أو أي فصيل مقاوم آخر.
كلمات تكشف انحراف البوصلة المصرية عن مسارها الطبيعي، إذ يُفترض أن تكون القاهرة سندًا للمقاومة الفلسطينية لا أداة ضغط عليها لصالح الاحتلال.
بين "الضمانات الأمنية" و"الخنق السياسي"
تسويق مدبولي لفكرة "الضمانات الأمنية للطرفين" يعكس عقلية تُساوي بين الضحية والجلاد.
فبينما تستمر إسرائيل في قصف غزة وحصارها وقتل أهلها، تأتي مصر الرسمية لتطرح مقاربة تجعل أمن الاحتلال على قدم المساواة مع أمن الشعب الفلسطيني، بل وتشترط تجريد المقاومة من سلاحها.
هذه الصيغة ليست سوى محاولة لتسويق ما يريده البيت الأبيض وتل أبيب: غزة منزوعة السلاح تحكمها سلطة شكلية، تحت رقابة إقليمية ودولية.
تماهي خطير مع مشروع ترامب الجديد
المفارقة أن تصريحات مدبولي جاءت متزامنة مع ما طرحه الرئيس الأمريكي السابق – والمرشح الحالي – دونالد ترامب من مشروع إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح.
الفكرة ذاتها: دولة تُرفع فيها الأعلام الفلسطينية، لكن دون جيش ولا مقاومة ولا قدرة على الدفاع عن نفسها.
مجرد كيان هشّ يخدم أمن الاحتلال ويمنع أي تهديد مستقبلي له. حين يدعو رئيس وزراء مصر إلى ما يشبه هذه الرؤية، فهو في الواقع يشارك في شرعنة "صفقة القرن" بثوب جديد.
مصر من "الوسيط" إلى "الضاغط"
لطالما قدّمت القاهرة نفسها كوسيط بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال، لكنها اليوم تتحول من الوسيط إلى الضاغط المباشر على حماس، في انسجام مع متطلبات واشنطن وتل أبيب.
لا يبدو أن المسألة مجرد اجتهاد سياسي، بل جزء من استراتيجية واضحة: احتواء المقاومة، وتصفية بعدها العسكري، وفتح الطريق أمام تسوية هشة تُعيد إنتاج أوسلو في نسخة أكثر إذلالًا.
خيانة لدماء الشهداء
أي حديث عن "اليوم التالي" يتجاهل حقيقة أن آلاف الفلسطينيين قُتلوا تحت القصف خلال العام الأخير، وأن المقاومة صمدت بدماء أبنائها.
كيف يمكن تبرير تجريد الشعب من سلاحه بينما الاحتلال لا يزال يسيطر على الأجواء والمعابر ويحتجز الأسرى ويستولي على الأرض؟!
ما يقترحه مدبولي ليس "سلامًا" بل استسلامًا قسريًا، وخيانة صريحة لدماء الشهداء الذين أثبتوا أن السلاح وحده هو الضمان الحقيقي للبقاء.
لعبة "الضمانات" وأمن إسرائيل
التجارب السابقة تكشف أن أي ضمانات أمنية في ظل ميزان القوى الحالي ستخدم طرفًا واحدًا: إسرائيل.
فماذا تعني "الضمانات" إذا لم يكن هناك رادع عسكري يحمي الفلسطينيين؟ وماذا تبقى من السيادة إذا كانت مصر والأردن وأطراف عربية أخرى تتعهد بفرض الأمن بالنيابة عن الاحتلال؟
الحقيقة أن هذه الضمانات ليست سوى أداة جديدة لخنق غزة، وإفراغ المقاومة من مضمونها، وتحويل القضية الفلسطينية إلى مسرحية سياسية بلا روح.
مقاومة لا تُكسر
على الرغم من كل هذه الضغوط، أثبتت المقاومة أنها عصيّة على الكسر.
فكما فشلت محاولات الحصار والتجويع والتضييق على مدى عقود، ستفشل محاولات "نزع السلاح" عبر الطاولة السياسية.
إن سلاح المقاومة ليس ترفًا ولا ورقة مساومة، بل هو عنوان لكرامة الشعب الفلسطيني وحقه في الدفاع عن نفسه، وهو السطر الأخير الذي يحمي غزة من التحول إلى سجن مفتوح تديره قوات الاحتلال بواجهة عربية.
اليوم التالي في عيون القاهرة وتل أبيب
بينما يروّج مدبولي لخطط "اليوم التالي"، يعرف الفلسطينيون أن اليوم التالي الحقيقي لا يُبنى إلا على قاعدة الصمود والمقاومة. فالتاريخ علّم أن كل المفاوضات بلا قوة تحميها تنتهي بالخذلان.
أما مصر الرسمية، فبانحيازها إلى منطق نزع السلاح، فإنها تضع نفسها في خانة الخيانة، لا الوساطة.
إن دماء الفلسطينيين لا يمكن أن تُستغل لتمرير صفقات سياسية، ولا يمكن أن تُختصر القضية في "ضمانات أمنية" تمنح الاحتلال ما عجز عن انتزاعه بالقوة.