كشفت وثائق تؤكد أن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، التابع للقوات المسلحة، قرر تخصيص حديقة الفنون العامة بالمنيل—التي أُنشئت عام 1970 كحديقة مفتوحة للمواطنين على ضفاف النيل—لصالح نادي قضاة مجلس الدولة ونادي أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة، وذلك بعد خلافات نشبت بين هذه المؤسسات والجهاز حول مقرات سابقة لهم على النيل، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً وأعادت إلى الواجهة ملف الاستيلاء على المساحات العامة.
 

خلافات على الأرض.. وتعويض بحديقة عامة
تعود جذور الأزمة إلى أكتوبر 2024 حين نشب خلاف بين إدارة نادي مجلس الدولة وجهاز أراضي القوات المسلحة بشأن المقر القديم للنادي الممتد من شبرا حتى حلوان، بعد أن قررت الحكومة وفق القرار رقم 2637 لسنة 2020 نقل ملكية هذه المساحات إلى الجهاز العسكري.

وفي الشهر نفسه، تلقى نادي أعضاء هيئة التدريس خطاباً من الجهاز ذاته يطالبه بإخلاء موقعه ضمن أراضي طرح النهر، وهو ما رفضته إدارة النادي، ما دفع الرئاسة للتدخل وإصدار قرار يمنح المؤسستين "تعويضاً" عبر تخصيص حديقة الفنون لهما.
 

تمييز في التوزيع وارتفاع رسوم الانتفاع
وبموجب العقود الجديدة، جرى تقسيم أرض الحديقة بواقع 2500 متر مربع لنادي قضاة مجلس الدولة، مقابل 1000 متر فقط لنادي أعضاء هيئة التدريس، وهو ما يعكس تمييزاً واضحاً بين الطرفين.

العقود تضمنت أيضاً زيادة في أسعار حق الانتفاع بنسبة 33%، ليصبح المتر الواحد بـ100 جنيه بدلاً من 75، إضافة إلى رسوم تراخيص جديدة تشمل مواقف السيارات.
والأهم أن جميع الإنشاءات ستكون بنظام "الفك والتركيب"، ما يعني أن وجود الناديين في الحديقة مؤقت وقابل للإلغاء في أي لحظة إذا اقتضت مشاريع الجهاز العسكري.
 

الاستيلاء على ضفاف النيل
القضية لا تقف عند حدود حديقة الفنون. فمنذ صدور القرار الجمهوري في ديسمبر 2015 بتحويل جهاز أراضي القوات المسلحة إلى كيان اقتصادي ضخم يملك حق تأسيس الشركات والدخول في شراكات مع مستثمرين محليين وأجانب، توسعت صلاحياته لتشمل السيطرة على أراضي طرح النهر والجزر النيلية منذ 2020.

وبذلك، بات الجهاز يمتلك سلطة مباشرة على عشرات الجزر من بينها القرصاية، وجزر في الأقصر والمنيا، فضلاً عن أراضٍ على النيل في عشر مناطق مختلفة.
 

خسارة متكررة للمواطنين
المتضرر الأكبر من هذه السياسات هم المواطنون العاديون، الذين يُحرمون يوماً بعد يوم من متنفساتهم الطبيعية. فقد هُدمت حدائق عامة مثل حديقة أم كلثوم، وأُزيلت عوامات سكنية، وأُغلقت حدائق تاريخية مثل الميريلاند وجنينة الأورمان أمام الاستخدام الشعبي لتحويلها إلى مشروعات استثمارية محدودة لا يستفيد منها سوى نخبة صغيرة.

وفي الإسكندرية، تكرر السيناريو ذاته مع شواطئ البحر المتوسط التي جرى إحاطتها بأسوار وخصخصتها لصالح مستثمرين، قبل أن يمتد الأمر إلى شواطئ البحر الأحمر ومحمياته الطبيعية مثل وادي الجمال ووادي دجلة.
 

تعدٍ على الدستور
لا تتعارض هذه السياسات مع مصالح المواطنين فحسب، بل تتعارض أيضاً مع الدستور المصري ذاته، الذي ينص في مادته رقم 45 على التزام الدولة بحماية الشواطئ والبحيرات والمحميات الطبيعية ومنع التعدي عليها.
ومع ذلك، تمضي الحكومة في منح الأراضي العامة للجهات السيادية أو لمستثمرين خليجيين ضمن صفقات استثمارية يشرف عليها رئيس الوزراء، لتصبح الموارد الطبيعية متنفساً اقتصادياً مغلقاً على حساب ملايين المصريين.
 

بلد بلا متنفس
بهذه الخطوات، يجد المواطن المصري نفسه محاصراً بالأسوار والخرسانة من كل جانب: لا حدائق عامة، لا شواطئ مجانية، ولا حتى أراضٍ على النيل يمكنه الوصول إليها.
وبينما تتوسع الأجهزة السيادية في مشاريعها، تتقلص فرص المصريين في الاستمتاع بحقهم الطبيعي والدستوري في المساحات الخضراء والشواطئ العامة.