لطالما اعتُبرت البنوك في مصر ملاذًا آمنًا للمودعين الباحثين عن عوائد مستقرة وحماية لمدخراتهم.
غير أن الواقع الاقتصادي في 2025 يثبت العكس، إذ تباطأ نمو الودائع في 11 بنكًا مدرجًا بالبورصة المصرية إلى أدنى معدلاته منذ تحرير سعر الصرف في 2024، ليسجل 6.2% فقط في النصف الأول من العام مقابل 24.4% في الفترة نفسها من العام السابق.

هذا التراجع الحاد يعكس فقدان ثقة المصريين في النظام المصرفي كمكان يحمي أموالهم، وسط سياسات نقدية مرتبكة أبرزها خفض أسعار الفائدة وتذبذب سعر صرف الجنيه، وهي سياسات يُحمّل خبراء كُثر مسؤوليتها المباشرة لرؤية السيسي الاقتصادية التي وُصفت بأنها قصيرة الأجل وفاشلة في معالجة الأزمات.
 

تباطؤ نمو الودائع.. انهيار الثقة في الملاذ التقليدي
وفي آخر مسح رسمي ظهر أن إجمالي ودائع العملاء في البنوك الكبرى بلغ نحو 3 تريليونات جنيه فقط، مقارنة بـ2.52 تريليون في العام الماضي، لكن بمعدل نمو ضعيف للغاية.
السبب الرئيسي يعود إلى تحرير سعر الصرف الذي أدّى إلى إعادة تقييم الودائع الدولارية، فضلًا عن قرارات خفض الفائدة التي جعلت الادخار أقل جاذبية.

هاني جنينة، رئيس قطاع البحوث في "الأهلي فاروس"، أكد أن تراجع وتيرة النمو مرتبط بانخفاض قيمة الجنيه سابقًا أمام الدولار، ثم تحسنه النسبي لاحقًا، وهو ما أحدث حالة من الارتباك بين المودعين.
النتيجة النهائية: المواطن المصري لم يعد يرى البنك ملاذًا آمنًا لأمواله، بل يبحث عن بدائل أكثر جدوى.
 

خفض الفائدة.. قرار يفاقم الأزمات
في أغسطس الماضي، خفّض البنك المركزي المصري أسعار الفائدة للمرة الثالثة في عام 2025، ليصل سعر الإيداع إلى 22% والإقراض إلى 23%.
وعلى الرغم من أن بعض المصرفيين اعتبروا ذلك خطوة لتحفيز الاستثمار، إلا أن الأثر المباشر كان هروب المدخرين من البنوك.

انخفاض العائد الحقيقي على الودائع في ظل التضخم المرتفع جعل السياسات النقدية غير مجدية لحماية أموال الأفراد.
بدلًا من أن تصبح البنوك جاذبة للسيولة، تحولت إلى بيئة طاردة، ما فتح الباب أمام انتقال رؤوس الأموال نحو الذهب والبورصة وأدوات استثمارية أخرى. وهكذا، فشل النظام المصرفي في القيام بدوره الأساسي كمحرك للادخار الوطني.
 

صعود القروض.. ديون تتضخم بدل المدخرات
في مقابل تراجع الودائع، ارتفع حجم القروض بنسبة 18.4% في النصف الأول من 2025 ليصل إلى 1.54 تريليون جنيه، وهو ما يعكس توجه البنوك نحو تمويل الشركات والأفراد في ظل ضعف السيولة.

مسؤولو البنوك أقرّوا بأن خفض الفائدة جعل الاقتراض أكثر جاذبية، لكن هذا الاتجاه يحمل مخاطره، إذ يُعمّق مديونية القطاع الخاص بدل أن يعزز قاعدة الادخار والاستثمار طويل الأجل.
التوسع في القروض لتعويض نقص السيولة قد يؤدي في المستقبل إلى أزمة تعثر، خصوصًا مع استمرار الضغوط الاقتصادية على المستهلكين والشركات.

وهنا تظهر خطورة السياسات الاقتصادية الحالية: دعم مؤقت للنشاط عبر الاقتراض، لكنه يهدد بالانفجار لاحقًا.
 

المواطن ضحية السياسات الفاشلة
المستهلك المصري يجد نفسه اليوم ضحية التضخم الذي يلتهم دخله وأضرار القرارات الحكومية التي أفقدته الثقة في البنوك.
مع ضعف العوائد الحقيقية على الودائع، لم يعد الادخار في الجهاز المصرفي خيارًا منطقيًا.

الأسر المصرية لجأت إلى الذهب كملاذ تقليدي، وإلى البورصة بحثًا عن عوائد أعلى رغم مخاطرها. أما الشركات، فقد فضّلت القروض لتسيير أعمالها في ظل تراجع السيولة.

كل ذلك يعكس حقيقة واحدة: السياسات النقدية والمالية في عهد السيسي لم تُنتج استقرارًا اقتصاديًا، بل عمّقت الأزمات وأضعفت النظام المصرفي، الذي كان يُفترض أن يكون الركيزة الأساسية لحماية أموال المصريين.

وفي النهاية فبيانات البنوك في 2025 تكشف أن الجهاز المصرفي المصري لم يعد ملاذًا آمنًا ولا أداة مربحة للمودعين، بعدما فقد جاذبيته نتيجة سياسات اقتصادية مرتبكة يقودها نظام السيسي.
التراجع الحاد في نمو الودائع مقابل الارتفاع السريع في القروض يعكس خللًا هيكليًا خطيرًا، ويؤكد أن الحكومة تركّز على حلول وقتية دون معالجة جذرية للأزمة.

وفي ظل غياب رؤية اقتصادية واضحة، سيظل المواطن المصري الخاسر الأكبر، فيما تتحول البنوك من حصن للأمان المالي إلى مصدر جديد من مصادر القلق وفقدان الثقة.