منذ القدم، اعتُبر علم الحرب النفسية أحد أهم الأدوات الاستراتيجية التي تستخدمها الدول والجيوش ضد أعدائها، بهدف التضليل، وإشاعة الخوف، والتحكم في العقول، وإضعاف الروح المعنوية للخصوم.
غير أن المشهد في مصر خلال عهد عبد الفتاح السيسي يكشف عن انحراف خطير في استخدام هذا السلاح؛ إذ لم يعد موجهاً إلى الخارج أو إلى أعداء الدولة، بل جرى تسخيره بشكل ممنهج ضد الشعب المصري نفسه، في محاولة لإخضاعه، وإحكام السيطرة على وعيه الجمعي، وضمان استمرار النظام في الحكم، عبر ما يسمى باللجان الإلكترونية.
 

ماكينة ضخمة لتشويه الوعي
قام النظام بتسخير أجهزة الدولة الأمنية والإعلامية، وضخ ميزانيات هائلة لتأسيس ما يشبه "ماكينة" عملاقة تدير معركة نفسية يومية ضد المواطنين.
هذه الماكينة لا تكتفي ببث رسائل دعائية، بل تعمل على تشويه الوعي الوطني، عبر سيل متواصل من الأخبار المفبركة، والعناوين المثيرة، والترندات الموجهة، إلى جانب إغراق المجتمع في قضايا مفتعلة تُشغل الرأي العام عن أزماته الحقيقية، مثل الغلاء، الديون، وانهيار الخدمات الأساسية.

وتُظهر متابعة الإعلام الرسمي والخاص الموالي للنظام حجم التضليل؛ إذ يتم تضخيم أحداث ثانوية، بينما يتم تجاهل أو تهميش القضايا الجوهرية.
والهدف من ذلك هو تشتيت انتباه الناس وصرفهم عن التفكير النقدي أو المطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية.
 

اللجان الإلكترونية.. جيوش من الظل
أحد أبرز أدوات الحرب النفسية في مصر هي اللجان الإلكترونية، التي يديرها ضباط وجهات سيادية.
عشرات الآلاف من الحسابات المزيفة تتحرك على منصات التواصل الاجتماعي وفق أجندة موحدة، لنشر الأكاذيب وتضليل المتابعين، وشن هجمات منظمة على الأصوات المعارضة، مع خلق وهم بوجود "إجماع شعبي" خلف النظام.

هذه الحسابات لا تكتفي بالدفاع عن السلطة، بل تزرع الفتن داخل المجتمع، عبر شيطنة فئات معينة، وافتعال أعداء وهميين من داخل النسيج المصري نفسه، في محاولة لإحداث انقسام داخلي يحول دون وحدة الصف أو بناء جبهة معارضة قوية.
 

صناعة قدوات زائفة
إلى جانب السيطرة المباشرة على الإعلام ومنصات التواصل، يستخدم النظام أدوات أخرى أكثر خبثاً.
فهناك تركيز واضح على إبراز نماذج اجتماعية سطحية: فنانين مثيرين للجدل، بلطجية صعدوا للواجهة فجأة، وأثرياء حققوا ثرواتهم بطرق مشبوهة، يتم تصويرهم على أنهم رموز النجاح.

هذا التوجه يخلق بيئة مضطربة القيم، حيث يُدفع الشباب للاهتمام بالتفاهات والثراء السريع، بدلاً من الاهتمام بالعلم أو السياسة أو قضايا الوطن. إنها حرب نفسية ناعمة تستهدف البنية الأخلاقية والثقافية للشعب.
 

الأهداف والنتائج
الغاية النهائية من هذه الحرب النفسية ليست سوى ضمان بقاء السيسي في الحكم لأطول فترة ممكنة.
فالنظام يعلم أن الأزمات الاقتصادية الطاحنة، والتنازلات في ملفات السيادة، والفشل في مختلف الملفات الاستراتيجية، كلها عوامل تهدد استمراره.
لذلك، كان الحل هو إخضاع العقول وتحييد أي محاولة لبلورة وعي جماعي قادر على التغيير.

لكن خطورة هذه السياسة أنها تدمر على المدى الطويل النسيج الوطني وتفكك الوعي الجمعي، بحيث يفقد المجتمع القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف.
وهذا يفتح الباب أمام انهيار منظومة القيم الوطنية، ويجعل الناس أسرى لحالة دائمة من الإحباط واليأس، وهو ما يفوق في خطورته حتى دمار الحروب العسكرية المباشرة.
 

خيانة كبرى للوطن
إن استخدام ميزانيات الدولة وأجهزة أمنها وإعلامها في إدارة حرب نفسية موجهة ضد الشعب، يُعد في نظر كثيرين خيانة كبرى.
فالمفترض أن تكون تلك الأدوات في خدمة الوطن، وفي مواجهة الأخطار الخارجية، لا أن تتحول إلى وسيلة لإرهاب الشعب نفسياً، وتحطيم إرادته.

لقد خسر النظام – خلال فترة حكمه – معظم ملفات السيادة الوطنية، لكنه في الوقت ذاته لم يتوقف عن شن حرب يومية ضد شعبه، مستخدماً أدوات كان يجب أن تكون موجهة للدفاع عن البلاد.
وهنا تكمن المفارقة المأساوية: الدولة التي كان يفترض أن تحمي وعي شعبها، هي نفسها التي تعمل على تدميره.